النهار

نيويورك قبل أن تختنق بتلوّثها رحلة الصيف والشتاء!
إبراهيم توتونجي
المصدر: "النهار"
نيويورك قبل أن تختنق بتلوّثها رحلة الصيف والشتاء!
تعبيرية.
A+   A-
 "لا تريد أن تأتي إلى نيويورك هذا الصيف؟". "يا حبيبي، أنت تمزح بالتأكيد! إنها المدينة الأكثر تلوّثاً في العالم، في الوقت الحالي، على مقياس 222 بين 0 و500". " Come On، ليس إلى هذه الدرجة؟ أي أخبار تتابع؟". "عمدة المدينة تحدث إلى بلومبرغ، صباح اليوم. غابات كندا تحترق ونثارها يطمس كل الأنفاس في نيويورك". "أنت، فقط، متحامل على المدينة. لا تنسَ حكايات المطار، ولا كوابيس ضفة هادسون ولا حادثة الإغماءة التي تعرضت لها أثناء جولة الغابة مع مجموعة مراقبة الطيور. هذا كل ما في الأمر، اعترف".

صمت.

المشهد الأول: عتبة المدينة.

منى زكي. أفكر بالممثلة المصرية. تحديداً، بالمشهد الأول من مسلسل "لعبة نيوتن". رعبها. سمّاعة الهاتف المحشوة بعناية في داخل أذنها. صوت زوجها يملي عليها تعليمات الخروج الآمن من المطار. على عتبة "الحلم الأميركي" تتعرق خوفاً، تتوه، تتلعثم، يشلّها الخوف. بينما الرجل، من "غرفة المتابعة والعمليات" المظلمة، في مكان آخر وراء المحيط، يبدو صارماً وواثقاً من توجيهاته، كمن يلعب بـ"ريموت كونترول".

وهي... ترتجف، كما اعتادت أن تفعل منذ أن كانت طفلة كلما شعرت بالعجز عن المواجهة. البنت الصغيرة نمت جبلتها مخلّطة بخوف ورثته من اضطراب، حملته الأم أيضاً من علاقتها بأمها. إنها الدائرة التي تعيد إنتاج نفسها في ثقافة مترهلة لشدة إنهاكها بمليون عقدة تحاصر تربية النساء، فيمضين مختنقات بها، من دون ذنب إلا لكونهنّ نساء. آلة ضخمة من الخبث الذكوري المتسلّط والقاهر تحرص على أن يظل "المنتج النهائي"، لأجيال بعد أجيال، مصمماً وجاهزاً "للاستهلاك"، على الشكل ذاته. آلة تجابه أي طفرة خارج هذا النموذج، بالقمع وبالتشويه. هكذا سيفعل زوج البطلة طوال حلقات المسلسل التالية. ولكن ماذا عن حلمي، زوجها في الواقع؟

فيما أنتظر دوري في طابور الجوازات الطويل، كنت أسلّي نفسي بلعبة الأسئلة المشتتة والإجابات المتخيّلة: لماذا غالبية الجالسات على المقاعد المتحركة معي في الطابور هن من ذوات البشرة الداكنة؟ وما أول جملة قالها أحمد حلمي لزوجته منى زكي، وحدهما في البيت، بعد أول مقال مسموم نشر ليشيطنها بعد عرض فيلم "أصحاب ولا أعزّ" على "نتفليكس"؟

..ثم سألني موظف الجوازات، ذو الأصول المكسيكية البارزة في جيناته التي شكلت وجهه، ما يقارب العشرة أسئلة. وفي كل مرة كنت أجيب مع ابتسامة قلقة، فيما دماغي يستعيد، برعب، غرفة الاحتجاز الباردة في "مطار هيوستن" اللعين، قبل شهور، من هذه الرحلة.

*

أظن للوهلة الأولى أن أمراً بسيطاً قد طرأ، سيتم الاعتذار عنه لاحقاً. وأن هذا الرجل قد يكون متسامحاً، كوني واهماً ألجأ إلى الصور النمطية في ذهني، لا أتردد عن اعتبار أهل المكسيك متسامحين، بوصفهم ينتجون أفضل أنواع التكيلا! كما أنهم لا بد أن يجانبوا أفعال الاضطهاد كونهم يعانون منه ليل نهار في مدينة "البيسو" على الحدود مع تكساس، وتتفنن برامج تلفزيون الواقع، التي تبث على القناة السابعة، عند الساعة العاشرة مساء "بتوقيت نيويورك"، بنشر وتعميم مشاهد لهم لا تراعي أي خصوصية ولا تخلو من الإذلال، إذ تعرض صور وجوههم بوضوح في سيناريوات تنميطية كارثية. أليسوا هم، أيضاً، من عانوا من رئيس أراد أن يموّل جدار فصل عنصري (نسخة أميركية) من جيوب أهاليهم...

لا أحصد سوى خيبة الأمل، فمن دون أي "تعاطف أممي" يذكر، ينادي المكسيكي على زميلة له، داكنة البشرة، لكي تصحبني (كما في هيوستن) إلى غرفة الاحتجاز، التي كنت أقاد إليها متمنياً أن تحوي "مواصفات نيويوركية" مختلفة عما عشته في الجنوب!

بدا كل شيء، بالنسبة إليّ، مألوفاً، Deja Vue، إذ تكررت مشاهد بحذافيرها:

1. تأتي الموظفة بمغلف نايلون لونه أصفر.

2. تضع فيه جواز السفر بعد أن تبدي تأففاً من الدبق الذي علق، من "الأرزة المصمّغة"، على طرف أصبعها.

3. تطلب مني الجلوس بحزم.

4. تتجنب النظر إلى عينيك قاطعة الطريق على أي سؤال أو اعتراض محتملين.

لسان حالها يقول: "أنا غير واثقة متى سيتم النداء على اسمك. ولا أنصحك بأن تعبر عن أي اعتراض أو تسأل أي سؤال أو تمتعض أو تشعر ببرد أو تطلب غطاء لأعصابك الواهنة كما فعلت منذ شهور في مطار هيوستن. هل تظنني حنونة لمجرد كوني امرأة؟ هل أنت من اولئك الناس الذين في المطارات والدوائر الحكومية وعند منصات البنوك وبوابات الطائرات يتمنين أن يقع عليهم الحظ في التعامل مع موظفة امرأة لا زميلها الرجل؟ تظن أن الأمر سيكون أسهل؟ أنت تمزح أليس كذلك؟ هل تظن أننا مقهى "كان زمان" في دبي. لا ينقصك الا أن تطلب نارجيلة. أنت في أميركا. هل تعرف معنى ذلك. سأقرب المعنى لك عبر تشبيه تاريخي، بما أنك تحب كتب التاريخ. يشبه الأمر قبل مئات السنين تلك القوافل التي تنتظر خارج سور عاصمة روما المجيدة لكي يسمح لها بالدخول بعد تفتيشها والتأكد من أن كل من على ظهور بغالها أقسموا الولاء لحياة الأمبراطور. هل تقسم؟". مجدداً أخطف نفسي للحظة إلى ضفة "لعبة الأسئلة": لماذا استخدمت هذا التشبيه المستهلك؟ هل هي محدودة الخيال؟ هل لديها زاد معرفي؟ هل تقرأ كتباً؟ محلية أم عالمية مترجمة؟ هل قرأت جمال الغيطاني في "سفر البنيان". كنت لأستخدم مقاطعه البديعة عن "البوابة فيها الناس سعداء بلا هموم. هل ترجمت الرواية إلى الإنكليزية؟

تخيّلت أن يكون ذلك كله من لسان حالها، لكن حال لسانها لم يكن على هذا النحو. بعد أن أفلتت الجواز في المغلف الأصفر، تركتني لتسلمه إلى مكان أبعد، بينما تعرفت على مكاني الذي سأستوطن فيه للساعات المرهقة المقبلة، من دون أن أمنع نفسي من الابتسام لمجرد التفكير بصورتي وأنا أؤدي قسمي، من فوق ظهر بغلة، بالولاء لأميركا.

ألمح على الجدار قبالتي ورقة معلقة كتب عليها بالإنكليزية: "سوف نبذل كل ما في وسعنا لكي نخدم بكرامة وشرف وندافع عن شعب الولايات المتحدة وأمنه". أتلفت حولي، أريد التأكد: "هل تتحدث هذه الورقة إليّ؟". ربما نعم، فلا أحد في غرفة الاحتجاز في هذا الصباح الباكر، في مطار "جي أف" كنيدي، غيري.

مهلاً، لمحت شاباً داكن البشرة، يجلس في أقصى طرف الغرفة، في ركن بدا لي مختلفاً عن غيره، وكأنه "ركن الاحتجاز الفائق". كان بالإمكان تخمين ذلك، من الحاجز الذي فصل هذا الركن، عن باقي مساحة الغرفة.

أحمد الله أنني لا زلت في مرحلة ما قبل "التصفيات" النهائية. آخذ نفساً عميقاً. أرسم ابتسامة زائفة على شفتي، تشي بالاطمئنان وتعيد ماء الوجه إلى ذكورتي المرتجفة خفاء. أحضر نفسي لانتظار طويل، وأشعر بغبطة أنني متحصّن بجاكيت "رعب برلين" الشهيرة المحشوة بالريش، تحت سياط جليد هواء المكيفات الذي تبثه الغرفة.

لقد اعتدت على اصطحاب هذه "الجاكيت" معي في رحلات متعددة، اضطررت للقيام بها بدافع العمل، خلال السنوات الماضية، إلى الولايات المتحدة. كانت بالنسبة الي، الصديق الأليف الوحيد، في ساعات الاحتجاز القاهر التي لا يسمح لك خلالها بالسؤال عن الأسباب، ولا حتى بطلب بطانية تقيك من آلام المفاصل (بعد رحلات عدة خلال شهور لاحقة، اعترف لي موظف باكستاني في مطار لوس أنجليس بأن هناك "تشابه أسماء" يعرقل اجراءاتي. غاضباً انفعلت: وهل يحتاج الأمر إلى كل هذه السنين لتصحيح خلل في الأنظمة)؟

أسمع الموظفة ذات الملامح الآسيوية، والوشوم الكثيرة الممتدة على ساعديها، حتى المرفق، تنادي على اسمي: "مستر تواني" (قصدها توتونجي):" نعم، أنا هنا". اخطو تجاهها وأسلي نفسي بالتفكير بالأحاديث الوديعة بين زوجين مثاليين كما زكي وحلمي.

**

المشهد الثاني: غابة المدينة.

الومض والظل. على يديّ. الخط الأحمر. النزف. في رأسي. في حلقي. في خيالي. على كفي. الخوف يتخطّف في داخلي. يرتجّ القلب. يخفت. يهمد. ترتعش الأنامل. حرب.

"هذا الشر العظيم كيف أتى؟ كيف ظهر على الأرض؟ أي بذرة؟ أي جذر؟ يسلبنا الضوء وحياتنا". أردد عبارات من الفيلم في رأسي. خط النمل، على الصخرة الكلسية بالقرب مني، لا يكترث لأوجاع تضغط على أعلى رقبتي. أنوء بحمل أفكاري. الخوف رابض. القلب جرذ مذعور على شجرة. الريح تتلاعب بتيجان جذوع باسقة مفتوحة على سماء صافية، فتتشكل ظلال تعكس ثلاث درجات لونية مختلفة لأخضرها: داكن وبري وطازج.

مشهد فرخ الطير المحروق في الغابة المتفحمة من فيلم تارنس مالك "الخط الأحمر الرفيع" (1998) لا يفارق الرأس الثقيلة. الحياة تقتل قبل أن تحلّق:" الطبيعة قاسية يا ستاروس"، يصرخ الكولونيل الباحث عن مجد شخصي في وجه قائد الكتيبة الذي رفض تعريض حياة جنوده لموت عبثي أشبه بانتحار جماعي. يحاول تفسير وجهة نظره:" أنظر إلى تلك النباتات تلتف حول جذع الشجرة تريد أن تخنقها". تزوغ عيناي. أفتح كفي مجدداً للومض.

أنا في نيويورك، وتحديداً في غابة محمية "كالفنتون"، تهاجمني كوابيس "أفلام الحروب في الأدغال". جئت إلى هنا مع مجموعة هواية "مراقبة الطيور". كعادتي انشققت عن الحشد. تمددت في بقعة مسهمدة. توسدت كتاباً تحت رأسي وحميت ظهري من كائنات الغابة وجنياتها بمعطف نايلون أصفر يشبه أزياء الإطفائيين. إطفائي في غابة "نيويورك" لكن الحرائق تشتعل في رأسي، وحطبها خزين السينما، وأحد مخرجيها المحببين عندي الأميركي تارنس مالك.

تعبق رائحة الحرب من طفولتي. تطن في رأسي حوارات من الفيلم حفظتها عن ظهر قلب لشدة تأثري به.

"أين هو بريقك الآن؟" يبكي شون بين على قبر الجندي الذي لطالما حاباه وشعر تجاهه بمودة من دون أن يصرّح: "لا زلت أرى بقايا الضوء فيك"، قال له القتيل، في لقائهما الأخير، وكان يدور حوله، يحدثه، وتدور الكاميرا وراءه.

كاميرا مالك ليست مرآة عاكسة. إنها روح. مثل روح البشر لها حكاية وتاريخ ومسار وفضاء. لها رغبة في التواصل مع أرواح أخرى. تقترب من أرواح الممثلين من الزوايا كافة، تنحني معهم وهم يحضنون بعضهم البعض، على السرير، يتلمّسون شعراً منثوراً تطيره النسائم أو يلعبون بحواشي الستائر المخرمة. هي كاميرا نورانية تبحث دوماً عن الضوء. تنتمي إليه. تحاكيه. في الغابات المخيفة، حيث تحيا الببغاوات المبهرجة جنباً إلى جنب مع الخفافيش، والثعابين على مقربة من أفخاذ الجنود المخلعة بالقنابل، والفراشات فوق قطرات الدماء المنسابة في الجداول، يبحث المخرج عن إجابات شافية، أو لعله يريد أن يعلق الأسئلة إلى الأبد على أغصان الغابة، لتبقى ماثلة أمامنا وجوهنا:" هل خرابنا يفيد الأرض؟ يساعد العشب على النمو والشمس على الإشراق؟ هل الظلام في داخلنا أيضا".

ألتفت إلى زهور صغيرة بنفسجية على مقربة مني. تواجه انحدار الشمس إلى مغيبها فتتوهج بلونها الأحمر الناري. خط النمل يختفي وراء عيدانها المليئة بالشوك. عفية ناضحة ونضرة. واضحة على النقيض من أفكاري. فائرة، ليس مثل الأسى الساكن في حلقي، مثل مرارة باتت منكهة لا تفارق اللغة ولا الأنفاس ولا الريق.

***

أسمع نداءات من بعيد. أصداء سرعان ما تتلاشى. لا تصلني. لعلهم "مراقبو الطيور" راعهم غيابي. لا داعي للجزع. قريباً يعاينون مكاني عبر مطعفي الأصفر.

أفكر بالحب. من أين يأتي؟ من يشعل هذا اللهيب في داخلنا؟ لا يمكن لأي كان إخراجه أو هزيمته؟

"كنت سجيناً وأنت من حررني".

لكن جاك سيتلقى بعد ذلك رسالة أخرى من حبيبته التي لطالما ناجاها في دواخل نفسه. ستكتب إليه: "سامحني.. شعرت بوحدة قاتلة. يا صديقي في كل تلك السنوات المشرقة، ساعدني كي أتركك. انني أطلب الطلاق. التقيت بشخص وأحببته في غيابك".

أفكر في لون الغياب. الغياب رمادي والموت أسود. الغياب ضباب يجثو على الصدر ويخنق الرئتين والموت مياه داكنة سوداء. مثل بيروت بحيرة حزينة ملفوفة بالغياب. الشوارع. الساحات. الأزقة. الجسور. الشاطئ. السطوح. قلوب الناس. التعب. الغضب. الاستلاب. التمرد. الطغيان. كاتم الصوت. النسيم العابر في حشائش التلال البعيدة. صرخات التعذيب في السجون. صفقات التجار والإعلام والمجرمين. أوراق الشجر اليابسة في زوايا الأرصفة تطفو فوق مياه طينية. دموع أمهات انفجار المرفأ الحارقة في محاجر العيون. شعر الأصدقاء. نثرهم. الرثاء. البوستات. الانكفاء. الضياع.

بيروت مدينة للموت. منذورة للتلاشي ونحن لم نعد نقوى على عزف المزامير.

لماذا ذهبوا إلى الغابة؟ لماذا يذهبون؟ لماذا لم تمنعهم أيادي أمهاتهم وتبقيهم للأبد إلى جانبها؟ لماذا لم يلحقن بهم على السلالم ويتكمشن بقمصانهم السوداء حتى التمزق؟ لماذا لم يكشفن عن صدورهنّ وينذرن الغضب لرب السماوات والتبري من جرائم البرية؟ لماذا الأمهات لا يطلقن الرصاص على أبنائهن حين يعرفن أنهم ذاهبون لقتل الآخرين في حروب العبث والشياطين؟ لماذا لا ينتصرن لشرف الطبيعة وكبرياء الحياة ونبل الولادة وينتقمن لفورة العيش التي دفعن أثمانها دماً وألماً ودموعاً وصرخات؟ لماذا لا توئد الأمهات أجنّة القتل النابتة من أحشائهن؟

لماذا لا يعودون من غابات الخوف إلى أمان المدينة، كما في فيلم مالك. المحاربون في بيوتهم في نيويورك يحيون حياة طبيعية قبل أن تحل بهم "لعنة الأدغال".

زودوا الأمهات بكواتم الصوت وهن سيتكفلن بإعادة التوازن إلى الطبيعة…

****

المشهد الثالث: شتاء المدينة

لم أتمكن من النوم بشكل مريح. يبدو أن السير طويلاً تحت المطر في "شارع واشنطن"، في الليلة السابقة، أضعف جسدي. أو هو ثقل الملابس الكثيرة التي أرتديها لأتقي برد نيويورك القارس.

مشيت كثيراً في ذلك الشارع وغمرني مطر. كنت أبحث عن آثار لم تعد موجودة لـ"سوريا الصغيرة" جنة المهاجرين من أهل لبنان الذين استوطنوا المدينة قبل أكثر من مائة عام وتحديداً ذلك الشارع. جبران والريحاني وميخائيل نعيمة والمئات ممن أثروا بشكل أو بآخر على تشكيل وعيي الأدبي المبكر مروا من هنا. وغمرهم ذات المطر. عملوا وحلموا وترددوا على المقاهي وخاضوا معارك على بعد آلاف الأميال من قراهم في جبال لبنان. الليلة، لا آثار لهم باقية هنا: تم هدم مباني "الحي العربي" في نيويورك في أربعينيات القرن الماضي.

أترك الشارع خائباً. أسمع موسيقى جاز تتصاعد من مطعم في حي "سوهو". أفكر بوودي آلن على الفور. السينما والمطر يقودان خيالاتي. لا أخاطر بالدخول. يمنعني التعب ويقتل في داخلي فضول وودي. أعود إلى الغرفة. أتناول نصف ساندويش. أحاول النوم. فروقات التوقيت تضغط على شرايين دماغي. أتقلب في السرير بين يقظة ومنام.

أرى صوراً. شاباً يافعاً في غرفة المعيشة في بيت العائلة في المدينة البحرية ينظر إلى شاشة التلفاز ولا يرى إلا غباراً كثيفاً وطائرة تخترق طوابق مبنى عالٍ كما في أفلام الكرتون. "سيتغير كل العالم. سيطوف الغبار في عيون كل أهل البلاد. سنأكل الرماد لسنوات طوال". يندب الشاب متفجّعاً..

استيقظ مفزوعاً. اتجه إلى نافذة الغرفة في الفندق المواجه بشكل صارخ لساحة الكارثة. المبنى لم يعد هناك. ثمة أرواح كثيرة هائمة حول نافذتي لا تريد أن تنام، تزعق في شارع "ليبرتي" وتتنفس أدخنة جافة و.. سامّة. أغلق الستارة. آكل ما تبقى من الساندويش. أغسل عن أسناني الرماد. أفتح الستارة. ألمح ميخائيل نعيمة من بعيد يتمشى وحده على ضفة "هدسون". نعيمة الأقرب إلى قلبي وفلسفته للأخاء والحب والحرية والسلم. حين نسفوا البرج اكتشفوا حجارة كنيسة بناها لبنانيون في "ليتل سيريا" (الحي السوري. والأميركيون أشاروا إلى المهاجرين اللبنانيين آنذاك بالسوريين كونهم آتين من بلاد سوريا الكبرى).

بقيت أحياء الصينيين شاهدة على إسهامهم في نهضة نيويورك أوائل القرن العشرين، لكن حي اللبنانيين هُدم وبنيت فوق شوارعه جسور وأبراج مركز التجارة العالمي. تلك التي سقطت ذات أيلول لينثر الرماد من بعد ذلك على أقدارنا في مدن وبلاد كثيرة في الشرق والمشرق. الفيلسوف نعيمة يتمشى ويكتب في باله: "جذور اللذة في الألم، وجذور الألم في اللذة، أما السعادة فلا جذور لها البتة".. تصلني همساته.. يأخذني النوم.

 

 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium