يوسف طراد
الغريب في مشاعر القارئ، هو ابتعاده عن حاجة القرب، مقابل حاجة الخبز. لكن جوزيف الجميّل تماسك مع روح الكتب في خضم صمتٍ يسعى لغاية الانهيار. فكان كتابه " أكتب باسم الحبّ نقدات دوريّ" الصادر ضمن منشورات "منتدى شاعر الكورة الخضراء" حاجة للفرح. نعم قد نبدو بخير، ولكن لن يبوح أحدنا بمسرّته كما باح الجميّل، في وقت نحن فيه بأمس الحاجة إلى عتاب القدر.
إذا توّغلنا في الكتاب، مرتدين معطف الصمت رغم عرس الحروف، فسيكون دورنا كدور خرساء في مسرحية غنائية. لأنّ الكاتب رسم الصمت كتابة متوهّجة على أوراق من روح، خاصّة عندما كتب ضمن قراءته بقصيدة "آه لو تسمعني" لغازي قيس: "أيها الشاعر أهلا... أناديك ذُهلا، بصمت شفيف، عفيف، تولّد في القلب الأسير أشجاناً وأحزانا" (صفحة 15).
كتاب "معجم ألفاظ الصوفيّة" للدكتور حسن شرقاوي، يتّسم بالتوازن بين المصطلح والمعنى المراد له، لغاية في العبادة من أجل التوحّد الصوفيّ مع الخالق، عبر التوحّد مع النشوة في دائرة الخلق. وبما أنّ جوزيف الجميّل قد كتب "باسم الحبّ" واصطفى الجوهر الإنساني ومداد الروح في سحر الدواوين، فقد ولج مع المتفكّرين والصوفيّين في أهداب الفكر، وتعالى عن نوازع الحزن، وجعل مفردات الموت حياة. هنا تلاقى مع أوتاد الصوفيّة عبر سطور بهيّة في عدّة نصوص منقودة أو مقروءة، على سبيل المثال لا الحصر وجد من خلال، قراءته بقصيدة "كنت اشتهي" للشاعرة ميراي شحادة حداد، "حقلًا معجميًّا للموت" (صفحة 23) من أجل الحياة، معانقًا معاني القصيدة في دائرة خلق الفرح السرمدي. وفي قراءته للمقطوعة الوجدانيّة بعنوان "لهب الفينيق وحلم الثورة" للودي الحداد، قد استبان الإيمان من الحزن، ذاهبًا لغاية ابن عربي في روحانية العبادة من أجل اتّحاد الأرواح بلوغًا للسمو: "لنا أن نحزن حتى الموت. ولكن حزن المؤمن قصور من رمال، سرعان ما تمحوها أمواج الرجاء والأمل" (صفحة 32).
دمج الجميّل العطاء بمواقيت جميلة مستترة في سحر العيون، وشميم عطر ذبذبات أريج خارج من أنوثة القصائد. فالمعروف أنّ الوردة تنبت برعمًا قبل فوح أريجها، وهل الأريج الّذي تكلّم عنه ضمن قراءته بقصيدة "آخر الرّمق" ليسرى البيطار، صادر من تراب اعتاد ألّا تنبت فيه الورود، "يعلن الأريج ولادة زهرة" (صفحة 59)، فكان الشّعور بالبهجة بدًأ بالإفراخ استشرافًا بانتشار الأريج فيما بعد. هنا نشعر بالفرح من خلال الأحاسيس، وليس من خلال العيون، ككفيفٍ مرهف الإحساس يشعر بالنص عندما يقرأه محسوسًا بلغة "برايل".
وكما في كلّ نصوص الكتاب يفيء الجمال، عطر نورٍ من أمنيات، وغدو آصال. فيستحيل رقّة حبّ، ويمسي سعيدًا متورد الحنان. فلقاء الروح مع الجسد، أوجد الوجد الوجودي المنتشر من صفحات، تمنيّات بالوصال في أجواء الأثير، "لو كنت عطرًا تقول الشّاعرة رانية مرعي، والعطر عنصر مائي هوائي. إنه اللقاء الأثيريّ بين الروح والجسد، في سحره بوح الروح، في مسارها نحو الأبد." (صفحة 74).
هل أنّ أصابع الشاعر أنامل تكتب أحاسيس الجمال، وأصابع القدر أطراف تصل الحياة بالموت؟ فكلّ من كتب باسم الحبّ، قرأ جوزيف الجميّل بصمته، بتقنيّة أبرز من خلالها هويته الإبداعيّة. ففي قراءته بديوان "مواويل لعرس النديِّ" للشاعر قيصر ميخائيل، وجد الأصابع سليلة الفكر، "يفاجئك الشاعر بإعلان أبوّته لأصابعه، تلك الأصابع التي تخطّ الجمال والإبداع" (صفحة 111). وفي قراءته برواية "أصابع القدر" للأديب ميخائيل مسعود، وجد في أصابع الموت خلودًا للقدر الّذي كان بانتظار صبيّة عاشت في كنف طبيعة، كانت مرسحا لطفولة جبران خليل جبران، وراهبٍ تنسّك في إحدى المغاور المحيطة بنهر قاديشا قبالة سهل الكورة الخضراء، "أصابع القدر عنوان يوحي بالموت، والموت مارد سحري يخترق ظلال الحياة بلا استئذان" (صفحة 324). وفي الحالتين قرأ باسم الحب قدرًا محتومًا، وحياة ملؤها الحبور.
من يكتب باسم الحبّ يغوص في الأحزان بحثًا عن المحبّة، ففي قراءة الكاتب برواية خييِّ جيديوس للأديبة مارلين سعاده، تمرّد مع الأشخاص المعذّبة في الرواية، بوجه من جعل الحرب أهليّة، ليصل إلى حبّ الوطن، بعيدًا عن آلام الأفئدة عندما كتب في الصفحة 179: "صديقتي مارلين تحتاج إلى قراءة بعيدة من آلام القلب، مأسوية القدر، إنّها تمثيل لرؤية جيل البحث عن إبر الأمل، في قش اهراءات الهوامات والهيامات."
لقد وظّف الكاتب الأعداد، في نقل الصور الجميلة من سطور النصوص المنقودة، إلى فكر القارئ بطريقة سلسة. لكن كان الأجدى به، أن لا يُقحم العدد، في مقاربة المعاني ضمن النصوص، من دون أن يشرح قاعدة تَطابق الأعداد مع المصطلحات، على سبيل المثال: "كما أن رقم 2، في علم الأعداد، يشير إلى الأرض، في حين أن الرقم 1 هو سماوي" (صفحة 22). فالقارئ غير المتمرس تخفى عليه هذه المصطلحات من دون إيضاحات، فالأدب لم يُكتب فقط للأكاديميّين بل لجميع القرّاء.
لقد قيل الكثير في الحبّ منذ فجر التاريخ، وأهرق مداد معاني كثيرة بين صفحات الكتب، وتنوّع حضور الحبّ بين المسمّى الوجودي (العشق)، وبين المسمّى الفكري الفلسفي (مقاربة النصوص للروحانيّات). ولعلّنا لا نبالغ إن قلنا، أن الحبّ كان موضوعًا جميلًا ملوّنًا في أثير كتاب "أكتب باسم الحبّ"، وامتلأت نصوصه من سحر حضور، وجلاء الموقف الإنساني الروحاني الّذين أغنتا النصوص المنقودة. فقد منحنا الجميّل نشوة ولذّة تسكران العقول في أحيانٍ كثيرة. مردّ ذلك، إلى الإحساس العاطفي المتدفّق بلا هوادة، من جذور قلبه. وبناءً عليه قد تجلّت المناقبيّة الصادقة للجنة التحكيم العائدة لوزارة الثقافة، بمنح كتابه هذا الجائزة الثانية المخصّصة ليوم الأديب لعام 2022.