مارلين سعاده
لنهاد الحايك عطاءات في مجالات عديدة، إعلاميّةوفكريّة واجتماعيّة، إذ عملت في مجال الإعلام، فكتبت وقدمت برامجَ اجتماعيّةتوجيهيّة تثقيفيّة في إذاعة لبنان الحر، ورأست تحرير جريدة "الهدى" فينيويورك، وكانت مراسلة من واشنطن ونيويورك لإذاعة صوت لبنان، وإذاعة مونتي كارلوفي باريس، وقناتَي BBC العربية و MBCفي لندن، كما قناتَي دبي وأبو ظبي، وذلك قبل أن تنضمّ إلى الأمم المتّحدة فينيويورك عام 2000، وقدانتقلت إلى بيروت عام 2006 لمواصلة العمل مع الأمم المتحدة من خلال منظمة الإسكواالتابعة لها.
أمّا عن نتاجها الفكريّ، فقد كتبت نهادالحايك العديد من المقالات والقصائد، وصدر لها ديوانان: "اعترافاتجامحة" (2015) و"عناقيد الزئبق" (2019)، كلاهما عن دار سائرالمشرق، كما صدرت لها ترجمة لمجموعة قصص للكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس تحتعنوان "تقرير بْرودي". ويمكن اعتبار "عناقيد الزئبق"، بماتضمّنه من نصوص شعريّة وتأمّليّة، بمثابة صرخة وجودية تمتاز بحسٍّ إنسانيّ مرهف، إذتحمل معاناة كلّ معذّبٍ ومظلوم على وجه الأرض، فتنتفض لهم/هنَّ، وتنقل شكواهم/هنَّوتساؤلاتهم/هنَّ بأسلوب يتّخذ منحى فلسفيًّا، من دون أن يفقد جمال الإحساس، وصدقالبوح، وروعة الصور، ساعية من خلال هذه الفلسفة الوجوديّة لتغيير الكثير منالمعادلات المُجحفة.
اختارت نهاد الحايك "محراب الشعر"،لِثِقتها بأنّه الحصن الحصين الذي يمكنه الحفاظ على أفكارها ومواقفها ومكنوناتقلبها، فلم تتوانَ عن إيداعه بوحَها الرائع بكلّ ما اعترى نفسها من تساؤلاتوجوديّة تتناول القيم الإنسانيّة وما يجري من تنكيل بهذه القيم، ومعاناة وطنها مماأصابه من مآسٍ ونكسات، وما راودها من أحلام وآمال بتحقيق العدالة والسلام اللذينيصبو إليهما كلّ إنسان، ليس في لبنان فقط، بل في كلّ أنحاء العالم. ولكنّ هذه الأحلامبقيت بعيدة المنال، لا تُطال، تمامًا كالزئبق، في ظلّ ما يشهده الوطن وكثير منبلدان العالم من ويلات، من صنع الإنسان، ومن هنا عنوان كتابها "عناقيدالزئبق". فقد كتبت شارحةً: "إذا كان الألم هو ما يعمِّق معنى الحياة،فنحن جيل الحرب وورثة دمارها الشامل، قد وصلنا إلى عمق الأعماق". وهي تطرحإجراء محاسبة جماعية ذاتية على أثر الخسائر الجسيمة التي تكبَّدها الوطن في شهدائه.وتعتبرالشاعرة أننا "على شهدائنا أمناء" وتعبِّر في الفصل المخصصللـ"الشهادة والشهداء" عن خشيتها من أن تكون أرواحهم قد هُدرت سُدىً ما لمنحقق نهوض الوطن. تقول: "رحلوا، فبقينا! يا لباهظ الثمن، يا لحجم الأمانة!فيا سنابل الحرية التي ارتويتِ بدمائهم، هلّا حمَيتِنا من النسيان؟" (ص 102)
تفتتح نهاد الحايك ديوانها بـ "أسئلةتائهة" تلخّص فيها وجع الإنسانيّة، وأسى قلبها لما يجري على هذه الأرض منمآسٍ؛ قلبُها المفطور على الحبّ والجمال، المفعم بفرح العطاء، التائق للأمانوالسلام، والمكلوم دومًا بسهام المرارة من ظلم وطغيان وتجويع وتشريد لعدد كبير منالبشر...
"كيف أتنفّس؟
وفي رئتيَّ يسكن صراخُ المتألّمين،
وفي أحلامي يصدحُ صمتُ المذبوحين.
...
كيف أكتب؟
وامرأة قتلها زوجُها تعيشُ فيَّ،
وإلى أمعاءِ طفل خاوية
يتسلّل خجلي،
وبين أنقاض المنازل
يتجوّل همّي
كطير تائه..." (ص 7)
وبالتالي فإنّ قارئ نصوصها ينبغي أن يدرك أنهليس في نزهة سهلة عبر دروب مزروعة بالورود، بل في رحلة محفوفة بالقلق. ولعل الواحةالوحيدة المضيئة بالبهجة في هذا الكتاب هي تلك التي خصصتها الشاعرة للحب، حيث تشرقمن سطورها تجليات الهناء ويتأجج في ما بين السطور جمر الهيام بحبيبها ورفيق دربها،وتنضح من صفحات البوح هذه نغمات احتفالية مشرَعة للأبد تكرِّس تَوافق القلبين فياتحادٍ يلامس الذوبان. تقول:
"حبي هو الشعر،
لا موضوعه.
أخاف أخون بهاءه
بكلمات خبا بريقها
في سباق الأقلام اللاهثة.
فهو يُلهِمني، يُخصبني،
يَسكنني، يَنظِمني.
إنه لي بيتُ القصيد." (ص 62)
ومن النصوص المميزة أيضاً "خزنةالوقت" حيث تتحدث، في مقاربة فلسفية ولكن بأسلوب سلس شفاف، عن الزمن واختلافالإحساس به والنظرة إليه وإيقاع استخدامه بعد نقصان رصيد العمر من جزء كبير منه.فقد اكتشفت الشاعرة أنّ ثقتها بعدم نفاذ مخزون خزنة الوقت، التي صنعتها "بقشّالثقة وخيوط الخفقان" والتي مَدّتها بالمقدرة على ملء حياتها بالعطاء، لم تكنسوى وهمٍ، وأنّها لم تحمِ هذه الخزنة بقِفل، "ظنًّا أنّ الوقت لن يهرب إلّابمعيّت[ها]..." (ص 11). وتقول:
"ماذا فعل الوقت
عندما صدَّقتُ أنه وفير؟
كيف تبخَّر الأوقيانوس
أكثر في جنح الظلام
مما تحت لظى الشمس؟
ماذا اقترف الوقت
عندما تضامن مع العناصر؟
مِن بين مَسامي كان يتسرَّب
ليمدَّ الأشياء بالديمومة..." (ص 14)
مع ذلك، لا الألم ولا الموت يمكنهما أن يطفئاشعلة الحبّ المتأجّج أبدًا في روحها، الحبُّ بكلّ وجوهه، ولعلَّ أكثرُها حضورًا فيوجدانها وجهَ العدل:
"...حبّكَ فارسٌ
يستردُّ طاقتي المسروقة
وحبُّكَ مسبارٌ
يذلّلُ الأفخاخ المزروعة في طريقي
وحبُّكَ ترياقٌ
يسحبُ السمَّ المدسوسَ في دمي
...
أفتقِدُكَ
فحبُّكَ كاشفُ القداسات المزيّفة
وحبُّكَ العافية لدحرِ الظلم...
...
يا أصعبَ وأسطعَ وأغلى وهْم...
أيُّها العدل..." (ص 17-18)
هذا العدل الذي لطالما طالبت به من أجلالمرأة. ففي قصيدة "مَن أنا؟" تتحدّث عن المرأة في الشرق:
"أنثى أنا، لا ناقصة
لا يكمّلني،
ولا يتملّكني، الذَّكَر...
معًا نزرع ونحصد معًا
ثمارَ زرعنا اليانعة..." (ص 20)
هي لم تُلغِ دورَ الرجل، إلّا أنّ واقع الشرقكسر ميزان العدل وحثّها على رفع الصوت لتوضيح الرؤية وتصويب الميزان:
"مِنَ الشرقِ أنا،
شرقٍ غاربٍ في الظُّلم والظَّلام
...
يتباهى رجالُه بالذنوب
وعنهم
تُكفِّر النساء." (ص 25-26)
تزامن واقع الشرق مع واقع الوطن، في تكسيرالمجاديف وخنق الجمالات التي ضجّت بها روحها، وقد اختصرَت التعبير عن ذلك فيقصيدتها "حياة ومرآة" (ص 31) حيث أتقنتاستخدام الأضداد لنَقل مشهديّةَ الخراب الفادح. "حياة ومرآة" قصيدة منياقوت، تستحقّ التوقّف عندها مطوّلًا.
في عناقيدها الزئبقية تفاجئنا نهاد الحايك بجرأتهاوبوحها الصادق، مصوّرةً لنا أسمى المشاعر الإنسانيّة في السعي إلى التقاط معانيالوجود، دأبها في كلّ ما كتبته؛ نقرأ في قصيدةٍ بعنوان "مَن يرثُسَفَري؟" وصفًا للحرمان من نعمة الإنجاب، وقد فاضت روحها بفطرة الأمومة:
"بيني وبين الحياة
موجةٌ ضائعة
أفلتت من قبضتي
بيني وبين الدنيا
طفلٌ لم يأتِ،
يلهو في حقول يقظتي،
في باله طائرةٌ من ورق،
أقواسُ قزحٍ وسهام،
معه ألعب
أركض ولا أتعب
وعنه، أخطف أنفاسي
حين في حضني ينام...
بيني وبين العمرِ
طفلةٌ،
تشبهني،
مضفورٌ شعرها بأصابعي
محفورٌ اسمُها على أضلعي،
طفلةٌ،
تسكنني،
كبرتُ وهي ما كبرت.
على حرير أنحائها
ملايين قُبَلي انهمرت
ظلت طفلةً طفلتي
أحلم بها،
وظل يعلو بُرجُ خيبتي." (ص 35)
ولكن كيف تعرف الهزيمة امرأة أعلنت في صرختهاالحمراء (ص 43) أنّها ستكون صوت كلّ موجوع يَسكنها وجعُه حتّى العظم (الجندي،والعامل، والمظلوم... والمنتهَكة حرماتهم، والمغتصَبة أراضيهم وأرزاقهم،والمعنّفات، والمغيّبات قسرًا...) فقضيّتهم شكّلت قضية مركزية في حياتها، إذ حملتهمّهم وتألّمت لألمهم.
من أجل كلّ هؤلاء روت نهاد الحايك كرْمهابحبر مجبول بماء إنسانيّتها ودماء كلّ ضحيّة ماتت غدرًا وظلمًا، وسلّطت عليها شمسالأمل والرّجاء والمحبّة، لتُثمرَعناقيدَ مكتنزة بالأحلام والآمال، تحاول قطفها يدُكلّ عاشق للخير والجمال، رغم زئبقيتها.