لا شيء أقوى من أن نتذكّر الأديب والشاعر والمخرج السينمائيّ المبدع بيار باولو بازوليني اليوم في بيروت المجروحة، وهي في أزمتها الديموقراطيّة، لننادي بضرورة رفع الصوت ضدّ خطر ذوبان الفكر النقديّ، الذي دفع بازوليني حياتَه ثمناً له، لا سيّما أن البعض رأى أن هذا المثقف التقدّمي تخطّى الخطوط الحمراء ضد الاستبداد والفاشية...
في برنامج مهرجان بيروت للأفلام الفنية والوثائقية في دورته الثامنة (BAFF) محطة تكريميّة للذكرى المئويّة لولادة بيار باولو بازوليني، بالتعاون مع المركز الثقافي الإيطالي، تكشف الوجوه المتشعبّة لشخصية كانت مثار انتقادٍ لاذعٍ في زمانه.
تختتم السلسلة اليوم الخميس في الـ17 من تشرين الثاني بما يهمنا، أي بازوليني والسياسة، في قاعة مؤسّسة عبد الله لحود في حرم الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة "الألبا"، في سن الفيل، بفيلم "تيورما"، الذي يحكي قصّة شخصيّة غامضة، تظهر في حياة عائلة إيطالية من الطبقة البورجوازية، وترتبط بعلاقات جنسيّة مع أفراد العائلة. الفيلم يقدّم بنسخته الأصلية مع ترجمة إلى اللغة الإنكليزية، يعقبه في الثامنة والنصف من مساء اليوم نفسه محاضرةٌ لربيع حداد بعنوان "كارل، سيغموند ويسوع في الزورق نفسه..".
التكريم
ما الغاية من هذا التكريم؟ ذكرت القيّمة على الذكرى هالة حبش، التي تعدّ ماستر بحثيّ في علم السينما في باريس، في اتصال مع "النهار"، أن "هذه الفعاليّة اليوم في المهرجان هي امتداد لبرامج تكريميّة عدّة لبازوليني في العالم كلّه"، مشيرة إلى أن "ما يقدّم في المهرجان يكشف شخصيّة الرجل، الكاتب، المخرج السينمائيّ، والمناضل ضدّ اعتداءات السلطة، مع العلم أنه عانى في حياته من رقابة فظّة على فيلمه السينمائي "سالو أو أيّام سدوم المئة والعشرون" (Salò, or the 120 Days of Sodom)، وهو من نوع دراما يتناول واقع المثليّين، ممّا أثار الكثير من التحفّظات على بثّه...".
اعتبرت أن "قتلَه في عمر مبكر (53 عاماً)، وتحديداً اغتياله بوحشية في العام 1975 على أحد شواطىء "أوستيا"، قرب مدينة روما، كانت محاولة لإسكاته، لأنّه كان في حينها يجاهر بمثليّته ورفضه لأيّ طبقيّة اجتماعيّة تُميّز أبناء المجتمع الواحد، ممّا راكم الرفض الكليّ لطروحاته من حوله".
ولفتت إلى أنّه "جمع في أعماله المنحى الشعريّ المدمج في أعماله السينمائية، وهو ما برز في قصصه القصيرة والدراسات والروايات، ومنها روايته "بترول"، التي صدرت بعد وفاته، بالرغم من أنّها لم تكتمل فصولًا مع موته، مشيرة إلى أنّه "نشر عدداً من السيناريوهات قبل أن يخرج قيلمه الأول آكاتوني" (1961)، وهو عمل فنيّ ضمن الأفلام شبه الواقعية المستوحاة من أوّل روايتين له "الشباب" (1957) و"حياة عنيفة" (1961).
وشدّدت على أن فيلم "آكاتوني" أثار عند عرضه الكثير من الفضائح، وهي باتت حالة محتكرة في مجمل أعماله...".
الريادة
تستعيد "النهار" ما خصّصته حبش لهذه المناسبة في المهرجان لنرى أنّ طروحات بازوليني كونيّة، تُلاقي الأزمات في بلدان عدّة، منها أزمة لبنان الحالية. فقد ذكرت أن أعمال بيار باولو بازوليني تنتقد السلطة من دون الإفصاح أبدًا وفعليًّا عن دوافعها الحقيقية. وتُظهر أعماله هذه المكافحة اللازمة لوجود كلّ ديموقراطيةٍ ودوامها، فتتقمّصها وتجسّدها، من دون أن يعني ذلك أن تكون درسًا جامدًا، لأنها - وإن بدت كأنها تدافع عن العدالة والإرادة الحرّة - تبقى وعن عمدٍ غامضة".
واعتبرت أن "أعماله السنيمائيّة توضح باتقانٍ كيف تتطوّر أفلامه وفقاً لجمهورها، وفق الزمن، أو وفق الواقع المُعاش، ممّا يسمح لهم بأن ينهلوا منها من دون انقطاعٍ تفسيراتٍ تعتمد أسلوبًا جديدًا وشخصيًا في فهم العالم بهدف تبيان العيوب؛ وفي نهاية المطاف معرفة كيفيّة محاربتها بأفضل السبل".
ولفتت حبش إلى أنه "لا بدّ من أن نعيش أفلامه باعتبارها تجارب حسيّة كاملة، وأن نشعر بها وفق روابطها الجسديّة. بطريقةٍ ما، يُمكن لنا انطلاقًا من هذه المشاعر المختلفة أن نكوّن فهمًا معيّنًا للفيلم الذي سيظلّ دائمًا، في أحد جوانبه، غامضًا في نظر جمهوره، ولكنّه سيعرف كيف يُلامسه".
المكافحة
وذكرت أن "المقصود بملامسته هو وضعه تحت الصدمة وتحريكه، وقبل كلّ شيء جعله يطرح التساؤلات. أحيانًا قد تجتمع هذه الصّفات الثلاث مع بعضها، ولكن نادرًا ما نفتقدها كلّها".
وخلصت إلى اعتبارٍ هو أن "نختبر أحد أعمال بازوليني هو أيضًا طريقة نقول من خلالها للشباب، الذين ينطلقون إلى مكان آخر بحثًا عن الأفضل، إن المكافحة، بغضّ النظر عن المكان الذي نكون فيه، متأصلة في داخل الإنسان، لكنها تصبح أمرًا لا غنى عنه تحديدًا عندما يحمل المرء في داخله ثقافة بلدٍ معقّدٍ حيث المكافحة هي السبيل للعيش".
[email protected]
Twitter:@rosettefadel