بقالب روائي لا يخلو من السياقات الكلاسيكيّة أدخلنا عبّاس بيضون إلى عوالم روايته "حائط خامس" (الصادرة عن دار نوفل - هاشيت أنطوان- ط.1 2022) التي تدور أحداثها بين فترتين، الأولى ما قبل الحرب بقليل والثانية خلال الاقتتال الأهلي في لبنان عام 1975 طارحاً نماذج متعارفاً عليها في الثقافة المجتمعيّة اللبنانيّة، متطرّقاً بطريقة مكثّفة ومركزة الى القضايا العالقة منذ فجر التاريخ اللبناني الحديث، منها التلاقي الإتني الاجتماعي بين الشخصيات، ما يجعلنا ندرك أن بيضون قد اختار تقديم الشخصية بطروحاتها المختلفة وتقديمها بأسلوب مغاير عن تقديم انزياحات سرديّة وثيمات عصريّة لتطرح من خلال ذلك الإشكاليّتين الآتيتين: كيف قدّم الراوي – الذي يتلطّى الكاتب نفسه خلفه – الشخصيّة؟ هل تقاسمت الشخصيات الراوي أم الراوي تقاسم شخصيّات النّص وتنقل بشكل زئبقي فكري بينها أم هي التي تقاسمته؟
الشخصيّات قبل تحوّلها
لم يترك صاحب "الشافيات" أي شخصيّة تتموضع في قالب ثانوي أو هامشيّ بل كان لكل شخصيّة دور محوريّ في نهضة النصّ من ناحية المبنى والمتن والحبكة من جهة وعلى الصعيد الخارجي أي في ما يتعلق بالخلفيات الاجتماعيّة والنفسيّة والثقافيّة ممّا أدى إلى بروز عمليّة مألوفة وغير مألوفة في آن واحد، وهي "عدوى التحوّل" حيث كل شخصيّة كانت تتحوّل في هذا النص الممتدّ على مدى 186 صفحة كانت تنقل عدوى التحوّل أو الاستعداد للتحوّل دون سواها وبالتالي فنحن أمام تقنيّة روائية واحدة رغم تعدّد الأصوات الروائيّة متمثّلة بأن الشخصيات على تباعدها واختلافها كانت عاملاً مسانداً لسواها، فالشيخ عبد الرحمن رجل الدين اليافع المقبل من بيئة أصوليّة وملتزمة نحو بيئة تحتاج إلى أن يهذبها ويعمّم فيها خاصيّة الالتزام والالفة والوحدة بين مكوّناتها الدينيّة خصوصاً أن لبنان حسب توقيت الرواية كان مشارف نزاع، انتقل من واجباته الفردية تجاه الجماعة إلى معارك ذاتية فرضتها عليه الجماعة أنفسهم، فاحتكاك الشيخ عبد الرحمن بالنساء بهذه الطريقة الديبلوماسيّة والسلسة مما يشير الى أنّه شيخ معتدل ولا يعتبر الدين مجرّد عصا للتأنيب والتوبيخ، قد عبّر عن رؤية الراوي المتلطي خلفه الكاتب نفسه بأن الوجه الإنساني لرجل الدين يجب أن يظهر قبل وجهه كواعظ، وما إدخال الشيخ عبد الرحمن ضمن حلقة نسائية شعبيّة تهوى سرد الحكايات والإغواء إلا أكبر دليل على أنّ عبّاس بيضون أراد كسر الجدار الفاصل بين بقعة جوهريّة من المجتمع متمثلة بالمرأة (الحبيبة/ الأم/ الصديقة...) وبين الرجل المتعلّق بموروثاته الأيديولوجية وأعراف مجتمعه المشرقيّ من جهة ثانية، والحق أن توظيف اليتم من قبل الكاتب قد أتى في خدمة عبد الرحمن الراغب في التحوّل والباحث عنه منذ أول دعوة الى الغداء واحتكاك "حوراء" الجنسي به، فلو وجد الأب بجوار الأم التي سرعان ما غادرت الى السيلمانيّة في العراق لاستعان عبد الرحمن "بصديق" ينتشله من مستنقع حيرته وهياجه الجنسي الخافت وانتقاله من تعريف الحبّ على أنه اجتماع إتنيّ مبنيّ على الأعراف فأتت غريس ابنة القسّيس العالقة الغارقة في حبّها الضبابي لأنطوان، والمكبّلة بتقاليد وعادات وطقوس لم تخترها...
لم تكن المرأة عاملاً مساعداً أو معاكساً للشخصيات خصوصاً أنطوان وعبد الرحمن بل كانت عاملاً يثير التحول الكامن في لاوعيهما، فأنطوان اليميني المعتدل الشاعر الذي يبحث ويشكّ ويقلق كان يخلع بزّته الدينيّة ويتكلم بلغة الغريزة والقلب تاركاً العقل مجرد "لومبادير" ينير ويسلط الضوء ويصوّر كل ما يجري من تحضير للتحوّل، خاصة أن صداقته بالشيخ عبد الرحمن كانت سببها امرأة "غريس حكتلي عنك كرمال هيك جايي اتعرف عليك" (سياق النص-بتصرف)... فالنساء الكثيرات اللاتي جذبهنّ أنطوان الشاب المنطلق بثقة نحو شهوته وتدمير الجنس لمسار يوميّاته المستقر أعطينه حجّة للاستقرار أو على الأقل البحث عنه، فاعتزل كل شيء وبقي في فلك التفكير والشعر وهذا ما سنبينه حين نتحدث عن النهاية في القسم الثالث من مقالنا.
إذن صداقة الطرفين المسلم المعتدل واليميني المعتدل كانت دافعاً لجعل كل الشخصيات الأخرى ولا سيما النسائية تقترن بالجنس لتكون بساطاً يجرّهما نحو التحوّل.
تقاسم الراوي للشخصيات
لم يكن غريباً أن تتعدّد الأصوات الروائية في نصّ تتداخل فيه الأيدلوجيّات دون أن يتصادم حاملوها، لكنّ الأكثر غرابة لو أن الراوي انسلخ عن نصّه وترك الشخصيات تبني نفسها بنفسها دون أن يتقمّص أيّاً منها، فالقضايا المطروحة ولا سيّما الانقسام القديم الجديد بين مسلمين يريدون زجّ لبنان في خانة العروبة والاشتراكيّة والنضال من أجل فلسطين وبين المسيحيين الذين يرون لبنان قطعة غربيّة أوروبية تنأى بنفسها عن التحوّلات المحيطة بحدودها الجغرافيّة.
فقد نجح بيضون في تقاسم الشخصيّات ونقدها خصوصاً عبد الرحمن وأنطوان، لكنّه أظهر انحيازه لشخصيّة أنطوان حيث زرع فيها شخصية الشاعر المثقف الراغب في الانطلاقة التي تؤمن عزلته ووحدته الهادئة، وهذا ما يذكّرنا بعبارة صاحب قصيدة "صور": أعيش محاطاً بكل هؤلاء الذين جعلوني وحيداً" فهل غريس وسيمون وسلوى (ساقطة القرية) جعلن أنطوان وحيداً أو محاطاً بالوحدة؟ الإجابة المبدئية ستكون نعم لكونهن أغوينه ثم انقلبن عليه إمّا بالانفصال وإما بالنكوص وإمّا بالارتباط بالغير. لكن ما لمْ يكترث لتبعته الكاتب أن الشق الآخر المتحول لدى أنطوان الذي بات شخصيّة عدائية انتقاميّة انقلبت على كل مبادئها لتغدو شخصيّة ميليشياوية ترغب في الثأر لأخيها ضحيّة الاقتتال الأهليّ، فهل يتحمّل الكاتب تبعات تقمّصه الجزئي هذا؟ وماذا عن عبد الرحمن الغارق في ضبابية التعاطي مع الجنس الآخر والذي يذكّرنا بشخصية عباس بيضون الذي لا يذكر في أغلب الأحيان المرأة إلا حين يرثيها أو حين تشتدّ عليه الوحدة!
كل ما سلف يؤكد أن الراوي تقاسم شخصياته ولم يكتف بطرحها، وهذا يضعنا أمام شكل آخر من أشكال تقييد الشخصية وتكبيلها وجرّها كأحجار الشطرنج خطوة خطوة نحو التحوّل، أي نحن أمام تحول أوتوماتيكي خارج عن إرادة الشخصيات وهذه النقطة قد أعادت النص برمّته الى المربّع الأول، مربع الصيغة الكلاسيكية لتعدّد الأصوات الروائيّة.
النهاية وخلاص الكاتب
نجح صاحب رواية "خريف البراءة" في إيجاد مخرج لهذا النص الشائك كالحقبة الدمويّة التي تتحدث عنه من خلال انتقال الراوي من مرحلة السرد إلى مرحلة التنظير، وقد اختار بيضون أنطوان الشخصية الأقرب ببعض خصالها لشخصيته ليضع النهاية المحفوفة بآراء أدبية واستطرادات عن الرواية الفلسفية وكونديرا، التي كتب إليها أن تلتقي مسؤولاً في الصفحة الثقافية لجريدة "السفير" للوهلة الأولى ندرك أنها عباس بيضون نفسه، فهل هذا يعني أن الشخصية وجدت ذاتها الضالة أخيراً أم هو نوع من تجنّب التراجيديا وجعل الشخصية تترفع عن كل النهايات؟ ألم يكن تقديم أنطوان لإنهاء النص ووضع خاتمته تذوبياً واضحاً للشخصيات وأخرى وجعلها ثانويّة أقلها عند عتبة النهاية وبالتالي احتكار أنطوان وانحياز الكاتب التام إليه والتعاطف معه من خلال خلق بداية جديدة له تتمثل بمشوار أدبي يشق طريقه كما البلد الذي شق طريقاً جديداً له بعد اتفاق الطائف؟
استطاع عباس بيضون التخلص من صياغة نهاية تقليدية لكنه وقع في فخ الانحياز التام وبالتالي لم تكتمل الخلاصة غير المألوفة في الرواية ألا وهي تقاسم الراوي للشخصيات.
مرّة جديدة يثبت عبّاس بيضون الروائي أنه ندّ قوي لعباس بيضون الشاعر، وهذا النص قد قدّم محاكمة لحقبة لم يكترث أحد منا فيها للإنسان الغارق في عوالمه وتحوّلات الفرديّة الخاصّة.
فهل تكون هذه الرواية مقدمة لإعادة النظر في الظاهر والمفاهيم التي بنت جيلاً كاملاً اسمه جيل الحرب؟ أم ستبقى علامة مضيئة تثير النوستالجيا والنقاشات والسجالات البيزنطيّة؟
لعلّ الإجابات موجودة في حائط خامس أو خارجه... أو على جدران أخرى.