هل هي أرواح تسكن قلوباً انتشت بصلاة اليقين، أم لوعة انسكبت في أعطافها دموع نديّة وخلجات فتيّة، أم آهات صادرة عن أوطان موجوعة موصوفة في رواية "من بيت الطين إلى عنّايا" لعمر سعيد؟ وقد ركنت إلى المدى الفسيح بين الصويري والعراق وقبرص... وعنّايا.
لم يهدأ الحبر ولم تستكن المعاني خلال سطور الرواية، وكانت حقيقته تغترف من الإيمان أناة الحضور، وتقطف من براعم المحبّة ترانيم الأنس في قدسيّة الأمكنة الساكنة في الخيال. حقيقةٌ لم تتبرّج بل اكتفت باكتحالها بألم الذكريات، وانعطفت عند مفارق المواقيت، تفتّش عن ماء الحياة الّذي ينحت من سيل النور وجْد الخلاص، فكانت روح الرواية وظلّها الظليل. فكيف للمحبّة، بعد هذا البوح الصّادق، أن تستبقي الجرح عند آهات الألم حشرجات صادحة من أوتار حناجرَ مقطّعة الأوصال في ذاكرة الزمن!؟
لم يصف عمر سعيد الاحتلال على أنّه وجهان لعملة واحدة، بل أظهره بوجهه المقيت الّذي يحجبه ألف قناع. وبيَّن هول الكوارث عند اجتماع الأقنعة على أرض لبنان: منظّمات جهادية وقوّات سوريّة وإسرائيلية وغيرها من التنظيمات المسلّحة، وقد فعلت بنفوس المواطنين المساكين فعل تسونامي الغباوة الّذي جرف البشر، وجمعهم في مستنقع المعتقد الواهي الدّاعي إلى الجهاد من أجل تحرير فلسطين، مستنقع كان مسكناً لوكلاء الله على الأرض، يسكنونه بأرواحهم وتقتات أجسادهم على براءة الأطفال وجهد المؤمنين: "كان شيخاً مؤمناً، وكنّا نحن الصّغار كفّاراً، وعليه إدخالنا في الإسلام" (صفحة ٢٥)، "ولا زالت مشيخة التّديّن والعشائر تحلّان محلّ المدرسة والقانون، رغم ما بلغنا من معارف" (صفحة ٦٦).
لم تكد تخلو صفحة في الرواية من ذكر فلسطين، فمن هم الأوفياء لترابها المقدّس؟ قبل تحويله إلى سلعة للبيع في سوق النخاسة السياسية، وقبل أن تنحرف القضية إلى مجرد شمّاعة مطالب وطنجيّة في بازار تجار الثورات ساكني القصور والفنادق. وأصبحت فلسطين مجرّد خطابات في بيوت العبادة، فهل كان جميع العرب والفرس منتصرين، ولبنان وحده مقاوماً؟ فالبندقية الّتي كانت بين عيون مرسال خليفة وريتا أكلها الصدأ: "كانت مدارس قريتنا كلّها بلا مراحيض، وعلى الرّغم من ذلك كنّا نهتف في طوابيرها الصّباحيّة لأجل تحرير فلسطين" (صفحة ٢٥)، "وظهرت في حارات قريتنا بيوت سنيّة وأخرى شيعيّة، وقد كنّا قبلها قرية مسلمة تسعى إلى تحرير فلسطين" (صفحة ٤٢).
استبدل الراعي القطيع برفاق السوء، وغدت المغاور التي كانت ملجأً للخراف أيام الشتاء مأوىً للمسلحين، واستعاض الفلّاح عن حمارته بكلاشينكوف، وبدل استفقاده نجمة الصبح الّتي تعلن موعد غدوته إلى الحقول أصبح يصغي إلى لعلعة الرصاص: "استبدلنا المحاريث والمعاول والرّفوش ومشذّبات الأغصان، وكلّ ما كان يربطنا بأرضنا استبدلناها بالبنادق الّتي سُلِّمت إلينا ورحنا نُنَظّر في علاقة الجغرافيا بالسلاح" (صفحة ١٠).
عَمَدَ عمر سعيد إلى وصف الواقع الّذي أدلج المسمّيات بنظرية المؤامرة، وكشف عن كلّ إنتاج فكري أو تصوّر معرفي كان مرهوناً بقدرة وفعالية وعظمة الفصائل المسلّحة والجيوش المحتلّة؛ وهذا الأمر هو نتاج طبيعي من أجل تشويه بنيوية أسس التفكير الوطني عند الأعمّ الأغلب من المواطنين: "شاعت مصطلحات الأمن القومي، والتكتيك، والاستراتيجيات، وحرب الاستنزاف على ألسنة النّاس، ولم أجد من يوضحها لي" (صفحة ١٩).
أحبّ بطل القصّة والدته حبّاً أسطورياً، ليس كحبِّ أوديب لوالدته جوكاستا، فحبّ الإنسان المعدم يختلف عن حبّ ابن الملك، لأنه نابع من المعاناة الّتي ترهق عقل الصغير، وتؤلم جسده من جراء الضرب المبرّح من قبل والده، بسوط رافقه في جميع مراحل طفولته قبل سفره إلى العراق: "كانت أمي تخبز وتصوم، تحصد وتصوم، تغسل وتصوم وتطبخ وتصوم. كانت تجوع وتصوم، تتألّم وتصوم، تحزن وتبكي وتتعب وتحيض وتحبل وتلد وتصوم" (صفحة ٩٩).
هل الكتابة عن السجن، تنسكب معاناة من جرح ينزف كلمات تعبّر عن العذاب؟ فالألم لا يكمن في السجن وجدرانه بل في الكتابة عن الحياة داخل تلك الجدران. وتمتدّ مآسي الحرّيّة استمراريّة قاتلة، مختصرة المفاهيم المفروضة القابعة في أقبية التّعنّت السياسية المظلمة، وحجم التهمة "مثقّف": "ثم انهال على كتفي وظهري بعصا راحت تسحق عظامي. استيقظت على نفسي نائماً في عتمة الزّنزانة، وأوجاعي تقتات من روحي لا من جسدي" (صفحة ١٤١)، "انتابني شعور الإشفاق على تلك الجدران؟! كانت مثلي سجينة، عاجزة، لا تملك حلاً لمعاناتها. لم أفكّر بتاتاً بتوثيق علاقتي بها كما فعل كثيرون ممّن سبقوني إليها" (صفحة ١٤٢).
ضمّت الرواية سبعة وخمسين فصلاً، بعضها منفصل عن بعض من دون عناوين، وكلّ فصلٍ شبه مستقلّ بمضمونه إذا قُرئ منفرداً. لكنّ سبب تواصل هذه الفصول هو خيطٌ روحانيٌ دقيق ومتين، لا يُشاهد سوى من خلال عيون القلوب النقيّة. وقد رُبطت بهذا الخيط عدّة مواقف مؤثّرة، بدءاً بسرقة كتاب الإنجيل، إلى اللقاء بالكاهن في إحدى كنائس بغداد، مروراً بقصّة المسبحة في زوّادة الرحلة القسريّة إلى قبرص... وصولاً إلى عنّايا.
أيّها الكاتب، ما يزال الطين يغلّف جدران المحبسة في عنّايا، فالرحلة من بيت الطين إلى محبسة الطين تختلف في بدايتها عن نهايتها. ففي عنّايا نجلس بأمان، ونصلّي بسلام في جنان فرحٍ روحيٍّ أبديّ. الطريق واحدة للجميع، لم يحدّث التاريخ عن امرئٍ سار على دربين في آن وواحد ووصل، وما عنّايا مثل كلّ الأماكن المقدّسة عند جميع الطوائف، إلّا عتبة من عتبات كثيرة تؤدّي إلى وليمة الآب. فلكي نعبرها يجب أن نعانق الصليب، فالرّبّ طرد آدم وحوّاء من الجنّة حين صرخ بوجه معصيتهما: "بعَرَقِ جَبينكُما تَأكُلانِ خُبزَكُما"، وبقولته هذه، دلّ الإنسان على طريق العودة إليه. والحياة في بيت الطين تختصر هذه الطريق إذا عشناها بمحبّة.
هل تعلم يا عمر سعيد أنّ زيارة مار شربل أصبحت غواية وليست حجاً. فبعد كلّ زيارة، يمتشق الزّوار نباريش الأراكيل في المطاعم المجاورة لدير مار مارون، بدل توأمة صليبهم مع صليب الرّبّ. وهل التخمة من موجبات الزيارة، وبائعو العلكة ببطونهم الفارغة ينتشرون في المكان وعلى كلّ مفترق من طرقات الوطن؟
أتَدْري أيّها الكاتب، أنّ الله شاءنا أن نكون لِيَكون!!؟ فلا السّلاح خاصّته ولا الكفر والتكفير مبدأه، وهو إله العالمين لا يختصّ بالمسيحيين أو المسلمين أو الملحدين...، ووهبنا المحبّة ليحبّ بعضُنا بعضاً كما أحبّنا. فلماذا لا نكون على صورته ومثاله كما أرادنا؟