في طقوس الأوبرا، الباريتون الليريكي فادي جنبرت شارك وعازف البيانو إيلي صوما جمهوره مجموعة ميلودية مدغدغة للسمع عبقت بنوتات من أجل السلام، وذلك بدعوة من نادي باخوس الاجتماعي، في قبو كنيسة مار يوسف للآباء اليسوعيين في الأشرفية.
استطاع جنبرت أن يعزّز في "ريبرتواره" تمايزه في أداء أوبرالي بمخزون يكرّس التزاوج بين الشرق والغرب، ويكرس رسالة السلام وحرصه على أهمية التنوّع الثقافيّ المهدّد في لبنان...
حاكى جنبرت جمهوره بلغات عالمية يلمّها بطلاقة، أوّلها اللغة المحكية بأوبريت "عطشان يا صبايا" لأحد أهمّ الموسيقيين المجدّدين الكبار في التراث الشرقي الراحل الكبير توفيق سكّر مؤدّياً إياها بحسّ راق، مدافعاً بذلك عن تراثنا العريق على الساحة الموسيقية من خلال هذه الأوبريت، التي أدخلها المخرج القدوة جورج نصر في فيلمه " الى أين".
تختلط أمامك مشاعر الحبّ والتعطّش الى براءة العشق من خلال صوت جنبرت الواضح المتغلغل في ذلك القبو العابق بالحبّ والشوق بكلمات تفيض بالإغراء: عطشان يا صبايا دِلّوني عالسَبيل /عطشان وْمَيّة عيني أحلى مِن السلسبيل/ وْجوعان يا صبايا ولّلي بْحِبّو بَخيل / يا ريت بِتْقولولو يَعْطيني وْلَو قليل/مَحروق انا مْنِ فْراقو تِخمين مَنْكُم عارْفين.
ارتسم على وجوه السامعين الانسجام الكلّي على النغم مع جنجرة صوت جنبرت الباريتونيّة الواسعة المدى.
الهموم
في هذه السهرة المميّزة، عكس احتراف جنبرت القواعد الأوبرالية من خلال أدائه قصيدة شعرية "البلاد المحجوبة" من كتابه "البدائع والطرائف" لجبران خليل جبران، التي عنونها صبرا "هوّذا الصبح"، وهو جزء من عمل مضن يقوم به جنبرت في بحثه في أرشيف وديع صبرا مؤسس الكونسرفتوار الوطني محاولاً إنصافه على زخم مؤلفاته المنسية.
غنّى جنبرت البارع الهموم في شطر يعنينا اليوم أكثر من أيّ وقت كما وصفه جبران خليل جبران منشداً: "شهدنا اليأس أسراباً تطير/ فزق متنيه كعقبان وبوم/... إيقاع الموسيقى، التي ننقلها بصوت جنبرت مؤدّياً هذه القصيدة، يكشف واقعنا، ولاسيّما عندما يذكر أنّنا "لبسنا الصبر ثوباً فالتهب/ فغدونا نتردّى بالرماد/ وافترشناه وساداً فانقلب /عندما نمنا هشيماً وقتاد".
تميّزت الأمسية أيضاً بطابعها الراقي جداً حيث تذوّقنا، ولو لساعة وبعض الوقت المجموعة الميلودية الإيطالية من تحف أوبرالية لكلّ من بيليني ويوتشيني وتوستي وصولاً الى "زواج فيغارو" لموزار متنقّلاً بنا في هذا العمل الأسطوري الساخر الذي جمع فيه جنبرت الأداء الراقي ببعض المرح والمزاح وبعض السخرية التي جمعت لو فيغارو أي حلّاق مع سيده النبيل، وكلّ ما يمكن أن يخرج الفوارق الاجتماعية بين الطبقات في ذلك الوقت بقالب ضاحك. فهل هناك أفضل من رواد الميلودية الإيطالية ليخرجونا من الألم الوجودي في لبنان ولو لوقت قليل جداً؟
تغيّرت في هذه السهرة العذبة نبرة الصوت الأوبرالي لجنبرت عندما أدخلنا في عالم فرنسي اللهجة وتحديداً في ميلودية للمؤلف الفرنسي هنري دوبارك في "دعوة الى السفر" وهي من كلمات لشارل بودلير يدعو فيها المرأة الى سفر خاصّ بين الحقيقة والخيال مع شيء من النفحة الشعرية، وهذا انعكس فعلياً بأداء صوت جنبرت المحترف.
لم يرق الاحتراف والإبداع الى هذا المستوى فقط، بل انتقل بنا بين أسطورة دوبارك الى محطة اخرى في ميلودية "ليالي اسبانيا" بتفاصيلها لجول ماسونيه في لفتة قيمة من جنبرت في تكريم هذه الهامة، التي أعطت فرنسا الكثير الكثير، من إبداعها الموسيقي رغم أنّه يعي تماماً عتب الفرنسيين عليه لانّه رفض منصب إدارة الكونسرفتوار الوطني الفرنسي لينكبّ على التأليف الموسيقى وهذا ما لم يلق استحسان الفرنسيين.
"الوداع"
بقي في ريبرتوار جنبرت الاستثنائي مجموعة ميلودية ألمانية تصدّرتها رائعة شومان "في الخارج" يروي فيها الوحدة القاتلة والصمت الموحش بعيداً عن الأحبّة المنتقلين الى المقلب الآخر وصولاً الى " سيريناد" لشوبرت، وهي ميلودية قائمة على الحوار بين اثنين في وضح الصباح.
وضع جنبرت أمامنا مرآة حياتنا لنكتشف شيئاً من ذاتنا في كلّ ميلودية حتّى وصلنا الى الميلودية الأخيرة في اللغة الإنكليزية لتوستي، التي يتحدّذث فيها عن "الوداع". يرتقي جنبرت بنا المغني الى كونية هذا الريبرتوار وامتداده الى خامة حنجرته الذهبية ليضعنا في حال من الفرح لحضورنا هذه الامسية.
لا بدّ من التنويه بمرونة أصابع عازف البيانو إيلي صوما، الذي رافق جنبرت في إبداعاته، متمكّناً من أن يطيب الاستماع اليه في معزوفات "سولو" برز من خلالها قدسيّة مضمون الموسيقى لاسيما للكبيرين توفيق سكر وموريس رافيل.
[email protected]
Twitter:@rosettefadel