النهار

الرجل الذي كان يشعر بالصقيع خارج دفّتَي الكتاب! (صور وفيديو)
هنادي الديري
المصدر: "النهار"
الرجل الذي كان يشعر بالصقيع خارج دفّتَي الكتاب! (صور وفيديو)
من الأمسية الشعرية للشاعر الراحل أنسي الحاج
A+   A-
كأنّهم انتظروا ذاك الرجل الذي كان يشعر بالصقيع خارج دفّتَي الكتاب، بشاربه الغريب، أن يدخل القاعة همساً ويهزّ كتفيه بحركة مُستسلمة وكأنّه يقول: "ماذا أفعل؟ لم أستطع أن أترككم تواجهون غضب الطبيعة وحسيّة الكلمات بمفردكم".

ذاك الرجل الذي كان يحلو له أن يسمع "المطر ينزل جافاً على الاسفلت".

وفمه، "ارتوى قليلاً وهو يروي لمن يُريد، ماضي الأيام الآتية".

وكأنّهم طلبوا منه بسكون أن يعود إلى الموت في وقت آخر.

"لاحقين كلّنا عليه".
 


هذا المساء، كان لا بدّ لهذا الحضور الجميل أن يتحوّل عائلة كبيرة يحضن أفرادها بعضهم بعضاً، ويشربون كأس ذاك الرجل "العابس" الذي كان يخفي خجلاً مُحبّباً، وقدرة مُخيفة على معرفة الناس و"حلّ شفرة" نواياهم.

كان لا بدّ لهم أن يدعموا بعضهم بعضاً ويتحدّوا زمن الزلازل والهزّات الأرضيّة التي سرقت من بعضهم آهات الخوف في بداية الأمسية – التحيّة لذاك الرجل العابس الذي كان يشعر بالصقيع خارج دفّتي الكتاب .

سُرعان ما فهموا أنّه كان بينهم، يجلس بخفر في مقعد خلفيّ من دون أدنى شكّ. رأسه مُنحنٍ وهو يغوص في رحلة داخليّة وتأمّل طالما رافقه في يوميّاته المُزيّنة بالكلمات، وبقدرة أرهقته على معرفة الطبيعة البشريّة وإصراره على إعطاء المرأة حقّها وإن داخل حديقة القصائد السرّيّة.

"مهرجان بيروت للأفلام الفنيّة" دعانا أمس الأوّل إلى أمسية حملت عنوان، "قولوا هذا موعدي"، لنقرّب المسافة بيننا وبين رجل رحل في العام 2014 من دون أن يعلم بأنّ حياته وكلماته التائهة في أروقة الأحاسيس ستُرافق العشرات ممّن عرفوه أو تربطهم علاقة غريبة بشعره الأكثر حناناً من "عبسته" الشهيرة، وأنه تمكّن من أن يُقصّر المسافات بين هؤلاء المجانين الذين ما زالوا يحلمون ويكتبون القصائد، ويتحدّون الرحيل من خلال "ماضي الأيام الآتية".

والطبيعة تُعلن عن غضبها علينا وعن حاجتها لأن تتنفّس.
 


والحضور يُطلق آهات الخوف من الجُدران التي تهتز باستهتار وقح، ولكنّها سُرعان ما تتحوّل آهات إعجاب، ويعلو التصفيق وقوفاً للشاعرة ندى الحاج وعشقها "المُستبدّ" لوالدها الذي ما زال يُرافقها حتى بعد رحيله، الممثل المسرحيّ الكبير رفعت طربيه وإصراره على التجوّل بين الحضور وتوجيه القصائد لهذا وتلك، الممثلة الرائعة بفرحها و"فروسيّة" أدائها جوليا قصّار، الشاعر "المُنضبط" بانفعالاته علي مطر، وسحر غناء رانيا الحاج الذي جعل الحضور يهتف إعجاباً حتى قبل انتهاء تقديمها قصيدة "إبحث عنّي" بأسلوبها الراقي والأنيق، ودلالها الدراماتيكيّ الذي دفع الممثل الكبير رفعت طربيه ليهتف ممازحاً في آخر الأغنية، "إذا لويس (الحاج نجل الراحل وزوج رانيا) مش هون، أنا مرتي هون!"، والصحافيّ الكبير بإلقائه الساكن حتّى الحكاية، عبدو وازن.

وها هي المُخرجة لينا أبيض تقف على مدخل مسرح ليلى تركي في المكتبة الشرقيّة في شارع القديس يوسف، وتُردّد القصائد المختارة لهذه الأمسية التي اختلطت فيها الأحاسيس النبيلة بالرعب ممّا قد يحدث، مع المُمثّلين وكأنّ العمل ينبع من روحها وعشقها بدورها لوالدها الراحل الذي يُلخّص علاقة الأب والابنة التي لا يمكن لأيّ علاقة أخرى أن تُنافسها.

أرادتها مسرحيّة صغيرة أكثر منها أمسية شعريّة تُلقي التحيّة للمجموعة الشعريّة الكاملة التي صدرت للراحل الذي مضى على غيابه 9 سنوات.

أرادتها نُزهة صغيرة في عالم ذاك الرجل الذي كان يخجل من عظمته فقال ذات قصيدة، "وممّا قلت الآن وقبل الآن لن تذكروا كلمة".
 


وندى كانت بين قصيدة وأخرى تتحاور بصمت مع الرجل الذي رافقته حتّى آخر يوم من حياته، وقال لها قبل أن ينساب بسكون مُدمّر في بحيرة الموت، "العدرا (العذراء) هي الخلاص".

وتعاملت بتملّك مؤثّر مع القصائد التي كانت تُتلى على خشبة المسرح، ولم تتردّد بأن تُصحّح لهذا المؤدّي أو ذاك بطريقة عفوية حصدت الكثير من الضحكات السعيدة، إذا شعرت بأنّه غضّ النظر عن كلمة، أو استبق جملة وهو في حالة انخطاف تليق بذاك الرجل الذي كان يختبئ في النهار ليعيش الليل بأسراره الدفينة.

لينا أبيض قالت لنا في نهاية هذا الحدث الذي صفّق له الحضور وقوفاً لدقائق طويلة، أنّها تعرّفت إلى ندى من خلال منصّة "الزوم" وتأثّرت بحساسيتها المُرهفة وإعجابها الشاهق بوالدها الذي تشعر لينا بأنّه ما زال يُرافقها ويقف إلى جانبها في كلّ دقيقة.

وأكّدت أنّها قامت برحلة داخليّة جميلة مع الحاج، عندما طلب منها عبدو وازن أن تتولّى إخراج الأمسية-الحدث، وأنّها شعرت تماماً كما حدث مع الممثلة رائدة طه التي قامت الأبيض بإدارتها في مسرحية "ألاقي زيّك فين يا علي"، التي تروي من خلالها طه علاقتها بوالدها الأكبر حجماً من الحياة.

تُعلّق الأبيض، "لا أحد يستطيع أن يُلقي التحية على الأب مثل الأولاد. ندى اختارت النصوص باللغتين العربية والفرنسية ووقعتُ في سحرها. كنت قد سمعت عن صعوبة شعر أنسي، ولم أكن على إطّلاع كبير في الشعر العربيّ، ولكنّني فوجئت بجماليتها ولغتها البسيطة أو التي توحي البساطة وتقع في خانة السهل الممتنع".
 


وتفاعلت الأبيض كثيراً مع ما تصفه "بمشاركة هؤلاء الكبار النصوص. فأنا لا أستسيغ كلمة إلقاء، التي تستريح في نظري على الجمود والقسوة. خلال التمارين كانت الأجواء شغوفة (بشكل فظيع). هذه الأمسية هي أقرب إلى ردّ فعل جميل في هذا البلد الذي ينهار أمامنا. وحيث الانحطاط على جميع الأصعدة. شعرت خلال الأمسية بأنّها كانت بمثابة مُقاومة. كم أشكر الذين لم يهربوا بفعل الهزّة التي شعرنا بها جميعاً في بداية الأمسية. وفي الحقيقة الكلّ شعر بها إلّا أنا التي كنتُ في حالة انخطاف كبيرة. لا ألوم الذين خرجوا هرباً مما قد تقوم به الطبيعة. ولكنّ الجمهور غمرنا وغمر الأفراد بعضهم بعضاً بطريقة رائعة. تصوّري أنّ البعض شكرنا في نهاية العرض. الأجواء كانت راقية. لم تكن مُزيّفة للحظة".

التمارين الأولى كانت عبر "الزوم"، وانتقل فريق العمل بعدها إلى المسرح، "وعندما تعملين مع المُحترفين لا يحتاجون إلى أكثر من اقتراح صغير ليفهموا تحديداً رؤيتي للعمل أو لهذه القصيدة".

وعن علاقة ندى بوالدها الذي كانت تعرف جيداً أنّه يشعر بالصقيع خارج دفتَي الكتاب، فتقول الأبيض، "التواصل بينهما لا مثيل له. كم هي صعبة أن تتحمّل ندى مسؤولية هذا الإرث الكبير الذي تركه والدها. كم صعب أن يكون أنسي والدها. ولكنني اكتشفت بأنّ أنسي بحضوره الغائب ليس ثقيلاً على ندى. فهي تسير إلى جانبه بصلابة، وتتحدّث معه وكأنّه معها. أنا معجبة إلى حدّ كبير بالبنات اللواتي يعشقن والدهنّ"، لاسيّما وأنّ لينا الأبيض يُعرف عنها عشقها لوالدها الراحل الذي تدعوه من حيث يمضي يوميّاته في مستنقع الموت، ليحضر أمسية من كلّ مسرحية تقدّمها. له دعوة خاصّة في كلّ عمل مسرحيّ تُقدّمه هذه الجامحة ذات الشعر الأحمر غير المُروّض تماماً كروحها. تترك له مقعداً شاغراً.
 

 
والطبيعة هذا المساء أفرطت في اعتدادها بقوّتها وسيطرتها الكاملة علينا. الطبيعة تُصدر حفيفها الخطير، ولكنّ روعة الكلمات الرقيقة للغاية في زمن الموت الذي يُهدّد هشاشتنا تقف لها بالمرصاد.

والنبيذ الأحمر الذي ينتقل من كأس إلى أخرى على خشبة المسرح وبين الحضور يُذكرنا بضرورة الاحتفاء بما تبقّى من حياة.

والرجل الذي كان يشعر بالصقيع خارج دفّتَي الكتاب يبتسم تلك الابتسامة العابسة التي تختبئ خلف شاربه الغريب.

ونجله لويس أو (لولو) للمقرّبين منه، يتابع الأمسية من الخارج عبر الـ"لايف ستريمينغ" بإصرار من زوجته رانيا على أن يكون إلى جانب ندى التي تُحاول أن تدّعي الصلابة والهدوء أمام اعترافات والدها الذي لم يغب عنها يوماً. ولكنّه يعرف تماماً بأنّها ترتجف في الداخل وتلتوي شوقاً ككلّ الفتيات اللواتي وقعن باكراً في حبّ صورة الأب الأقرب إلى إمبراطور لم تتمكّن يوماً من أن تُلبسنه ثوب الرجل العاديّ الذي سيسير ذات يوم بسكون مُفجع داخل مُستنقع الموت.

-"الأعمال الكاملة" صدر عن دار المتوسط.

وأصرّت القيّمة على مهرجان بيروت للأفلام الفنّيّة أليس مغبغب، على أنّ الأمسية جزء من سلسلة طويلة يُخصّصها المهرجان للشاعر الراحل.

[email protected]
 
الصور والفيديو للزميل حسام شبارو:
 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium