النهار

"موت متواصل"
تعبيريّة.
A+   A-
جورج يرق
 
فصل من رواية

لن أخسر شيئًا.
 
هذه العبارة رافقتني من الدير إلى المستشفى. وطردتِ القلق والخوف اللذين طارداني طويلًا.
 
إذا نجحت العمليّة أبصرُ مجدّدًا. وهذا ما آمله.
 
طالما طلبتُ من الله أعجوبة ترفعُني من العتمة إلى الضوء كي أعاود الاستمتاع برؤية ما صنعت يداه.
 
وإذا فشلتْ لن يتغيّر شيء. لن تزداد عتمتي عتمةً. ولن أكره الحياة. بعد ثلاثة عشر عامًا، تأقلمتُ مع العتمة. وروّضتُ حواسي العاملة حتّى تخدمني إلى أنْ تأتي ساعتي.
في الأسابيع التي سبقت موعد العمليّة، كثيرًا ما خامرتني فكرتان. لا بل ثلاث.
 
الفكرة الأولى: إذا استرجعتُ نظري، فهل يعاودني الحنين إلى العالم الذي كنتُ فيه قبل العمليّة. طبعًا ستكون سعادتي بعودة بصري فائقة. ومن الإجحاف مقارنتها بذلك الحنين.
 
الفكرة الثانية: إذا استرجعتُ نظري، فهل أستطيع مواجهة الصدمة التي ستعتريني لدى رؤية أهلي والناس والأمكنة بعد طول انقطاع.
 
الفكرة الثالثة: إذا استرجعت نظري بعض الوقت ثمّ فقدتْه، لا سمح الله، فهل من الممكن أنْ لا أتحمّل العودة إلى العتمة.
 
تخلّيتُ عن هذه الأفكار كلّها لدى دخولي العيادة وحدي هذه المرّة.
 
استقبلني الطّبيب استقبالًا ودودًا. ورحّب بالوفد المرافق وفق ما سمّاهنّ، شخصًا شخصًا. وخصّ الأُمّ الرئيسة بترحيب حارّ لأنّه يعرفها جيّدًا. وهو، إكرامًا لها، يعاملنا معاملة مميّزة من حيث تكلفة العمليّة.
 
طلبتْ عمّتي منه السّماح لها بحضور العمليّة. تجاهل الطّلب أو تظاهر أنّه لم يسمعها. فهمتْ عمّتي الرّسالة ولم تكرّر الطّلب. قبّلتني وهي تقول إنّها والآخرين في غرفة الانتظار. كذلك فعلتْ أُمّي زائدًا رسم علامة الصليب بإصبعها على جبهتي.
 
ظننتُ أنّ العمليّة تتمّ في قسم خاصّ بالعمليّات. كثيرًا ما سمعت اسم هذا القسم على ألسنة الجيران وفي مسلسلات التلفزيون والإذاعة.
 
لكنْ عمليّة كعمليّتي تحصل عادةً في عيادة. هذا ما قالته عمّتي منذ حدّثتنا للمرّة الأولى عن اختراع الليزر، وعَلِقَتْ هذه المعلومة في ذهني. لذا لم أستغرب وجودي هنا، في غرفة المعاينة. بل لو حدث غير ذلك لاستغربت.
 
قطرتِ المُساعِدة ثلاث نقطات في كلتا عينيّ. من نوع العطر عرفتُ أنّها هي التي فعلتْ ذلك وليس الطّبيب.
 
أتخيّل شكلها بناء على الوصف المفصّل الذي تولّته عمّتي وأُمّي. لاحقًا اختصرت أُمّي الوصف عندما شبّهتها بهدى، ابنة أحد جيراننا. وهي سمراء طويلة ذات شعر أسود لمّاع. وعيناها مضرب مثل لجمالهما.
 
انساب شيء من النقطات على خديّ. مُسح على الفور بقطعة من الشّاش. قبيل التقطير قالت المُساعِدة من باب التحذير إنّ حريقًا خفيفًا في عينيّ سينتج عن هذا العلاج السائل، وإنّ الحريق يستغرق بضع ثوان. وردّدتْ مرّتيْن "العمليّة بعد عشر دقائق".
 
في هذه الأثناء، كنتُ أسمع قرقعة أدوات معدنيّة توضع على لوح من المعدن. عدا وقع أقدام بين وقت وآخر، تناهى إليّ حفيف الثياب لدى التحرّك. استطعتُ تمييز حركة المُساعِدة من حركة الطّبيب. وحركة تنفّس كلّ منهما عندما يكونان قريبيْن منّي.
فيما أرصدُ ما يدور حولي، فأجأني الطّبيب بسؤال "خايفه؟".
 
هزّزتُ رأسي صعودًا.
 
فعلًا لستُ خائفة إذ سلّمت أمري إلى الله.
 
لكنّ السؤال بذاته أقلقني. لو لم يكن هنالك داعٍ للخوف لما طرح عليّ مثل هذا السؤال. من مئات الأسئلة التي بإمكان الطّبيب أنْ يطرحها على مريضه، اختار سؤالًا كهذا ربّما لشعوره أنّه لن يتوفّق في العمليّة. وأراد التمهيد لذلك تخفيفًا لوقع الخيبة عليّ. أو ربّما توهّم أنّي مضطربة مع اقتراب السّاعة الصّفر. في الحقيقة لا أستطيع تشبيه جلوسي على كرسيّ العيادة بجلوسي على كرسيّ المزيّن النسائيّ.
 
الدقائق التي سبقت بدء العمليّة بدتْ طويلة جدًّا. لو رافقتني أُمّي لوصفتْ لي الكرسيّ الذي أجلس عليه والأجهزة التي تحيط بي أو تتدلّى من فوقي. أوشكتُ أنْ أطلب من المُساعِدة أن تصف لي جهاز العمليّة. هذا أحد حقوقي. لكنّي تراجعت. لا أحبُّ أن أثقل عليها. ثمّ أخشى أن تخذلني بحجّة أنّ الوقت غير مؤاتٍ، أو قد تقول، مراعاة لخاطري، إنّها مستعدّة للوصف بعد الانتهاء من العمليّة، ليس الآن.
 
حين ألبستني مريلةً، وأرجعتْ شعري إلى الوراء بقطعة من القماش وربطتْ طرفيْها، عرفتُ أنّ العمليّة على وشك الانطلاق.
 
ثمّ قادتني إلى كرسيّ آخر غير الكرسيّ الذي كنت جالسة عليه. وركّزتْ رأسي على مخدّة من الجلد. وفيما هي تنقلُ يديَّ إلى مَسندَي الكرسيّ طرحتْ خيارًا آخر. وهو أنْ أضعهما على بطني مكتوفتيْن طوال مدّة العمليّة".
 
شكرتها، وأبلغتها أنّي أفضّل وضعهما على المسنديْن.
 
باختصار شديد شرح لي الطّبيب هذه المرّة سَيْر العمليّة.
 
ما شعرتُ به أثناء العمليّة قليل جدًّا. لا يُذكر. شيء بارد يحيط بعينيَّ، ثمّ يسخن. وحراك فيهما كالحكّة الخاطفة. في هذه اللحظات الحاسمة، استرسلتُ في أحلامي القصيرة. تخرجُني من الحلم حركةٌ أو عبارةٌ يوجّهها الطّبيب إلى المُساعِدة، ثمّ سرعان ما أدخلُ إلى حلم جديد.
 
مستغربٌ أنّ الأحلام التي خرجت منها ودخلت إلى غيرها لا صلة لها بالعمليّة أو بنظري.
"انتهينا"، قال الطّبيب.
 
ثمّ راحت يداه أو يدا مُساعِدته تغطّيان عينيًّ، كلٌ على حدة، بنوع من الشّاش ناعم نعومة جناح فراشة. وتثبّتان الغطاء بشرائط لاصقة ناعمة هي أيضًا.
 
"الحمدالله ع السّلامة، جورجيت". قال الطّبيب وردّدت المُساعِدة العبارة نفسها وراحتْ تفكُّ رباط القماشة عن رأسي.
 
"نجحتْ العمليّة، دكتور؟" قلتُ وأنا أسمع الحفيف الذي يخلّفه انتزاع القفّاز من الأصابع، والصوت الذي يولّده تحريك الأدوات والجهاز.
 
"إن شاء الله خير"، أجاب.
 
ثمّ أسدى إليّ جملة من التّعليمات التي ينبغي لي التّقيّد بها. وقال إنّ موعدنا المقبل بعد يوميْن، وفي الموعد نفسه.
 
*فصل من رواية لجورج يرق عنوانها "موت متواصل" ستصدر قريبًا عن دار"مختارات" ودار "تواصل للنشر". وهي الثالثة له بعد "ليل" و"حارس الموتى".
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium