يوسف طراد
لمن كتب ويكتب ناجي نعمان؟ فمن يقرأ كتابه "الزّائر أو عهد اللاعهد" الصادر ضمن منشورات "مؤسسة ناجي نعمان للثّقافة بالمجّان"، يجد نفسه خارج إدراك الإنسان لمفهومي الإلحاد، والإيمان، المتوارثين بواسطة وكلاء الله على الأرض، بدءًا من زمن مولد القرد "الداروينيّ" إلى عصر صناعة إنسان "الروبوت."
هل حلّ أب الكائن المنعتق في أيام الأرض حلمًا أو واقعًا؟ وهل كان هناك درب أمامه للوصول؟ وكيف هي درب الحلم، هل تختلف عن طريق الواقع؟ فقد مشى في المدن والدساكر بعزمٍ، لكن ليس بلهو مقامرٍ، فتحنّن وتحسّر، ولو حلمًا.
هل عمليّة خلق الإنسان جريمة، عاد الخالق لساحتها بعد حين؟ أو أنّ الربّ سكن الأرض بعد الخلْقِ لفترة، وأعاده إليها الحنين بعد أن ترك جزءًا من قلبه عند مخلوقه؟ وهل أن للنوستالجيا عند الربّ مفهومًا مغايرًا يختلف عن مفهوم البشر؟ فقد شاهد ما شاهده، وإحتار في إعادة عمليّة الخلق، لو لم تتم في غابر الزمن. فقرر وندم، ولو حلمًا.
إذا كان مثل الابن الشاطر، الوارد في الإصحاح الخامس عشر من إنجيل لوقا، قد تمحور حول معنى عيش حريّة الإنسان، بعيدًا عن الله ورحمته. واختزل صورة رحمة الآب في العهد الجديد عن كلّ خاطئ يتوب، وإذا كان للابن الشّاطر أخ أكبر، قد حاجج أباه على ذبح العجل المسمّن عند عودة أخيه، في حين أنّه لم يعطه جديًا واحدًا ليتنعّم به مع رفاقه. وإذا كان تبرير الأب لابنه قد ربط الحياة بالإيمان عودةً إلى الربّ بقوله: "لأنّ أخاك هذا كان ميتًا فعاش وضائعًا فوُجد" لوقا: (10: 30)، فأيّ سبب جاء بالزائر من حلم المنعتق إلى واقع البشر؟: "حَجَبَ الشَّمسَ بإبهامه اليُمنى، فغدا يُرى، يراه المُنْعَتِقُ وَحدَه" (صفحة 20).
الزّائر وحيد لا أخ له، وسلطته مطلقة، هو العالم والعليم، والخالق وليس بمخلوقٍ. لماذا جعل النعمانيّ عودته معاكسة لعودة الابن الشاطر في الإتّجاه؟ فالابن الشاطر عاد إلى أبيه، لكنّ الزّائر عاد إلى ابنه. وها هو الزّائر يحاول انتشال البشريّة من تهويمات الديانات التي ترتكز على الخوف من الدينونة والنار، ومن فلسفتها للخالق ضمانًا لاستمراريّة امتلاك كراسي الفناء. فهل إذا عدنا إلى المنطق الفلسفيّ لفهم الواقع الحضاريّ مع التباساته وتشويهاته، نبتعد عن جاهليّة العقل الذي نعيش في إرهاصاته ورؤاه، وننطلق لإدراك مكنونات الروح وجدليّة التفكّر في معنى عمليّة الخَلق وأهميّة المخلوق بالنسبة للخالق: "ثمَّ أدبُك العميق هذا، المشدود الأواصرِ كالدَّساتير والمُعاهداتِ والعهُودِ في وثائقِ الكتَّاب بالعَدْل، ألا ترى معي، وحالُه هي هذه، أنَّه يَفْقِدُ الكثيرَ من جَمالِه كلَّما خطا ناحيَّة التَّعبير المُعَقْلَن؟ وأنَّ الذَّكاء، أو ما أُسَمِّهِ النُّمُوَّ الزَّائد، يُفسِدُ أحيانًا التَّناغم بينَ مَراحلِه، على غرارِ ما يَفْعَل الإفْراطُ في "المكْيَجَةِ" مَحْوًا لِبِشْر الوجود"؟. (من مقدمة الكتاب للدكتور إميل كبا صفحة 13).
هل لأنّه عاد ليعيد إلى الحبّ مفهومه السّامي، ويعتقه من جدليّات الدين تحريمًا وتفسيحًا: "فهنا عاشقان يُحرَّمان، وهناك مُتباعدان يُحلَّلان، ولمادَّةٍ وحسب! وذي زانية مُعلَنَة، تصول وتجول، لِ "انفتاحٍ" تفعل، وتلك عفيفة مَصون لِ "إرثٍ"، باقلَّ من شائعة تُرجم!" (صفحة 23). وهل لأنّه جعل لنطاق الأديان بُعدًا أنطولوجيًّا معرفيًا، كي يكون أرضًا خصبة لفعل المثاقفة، بدءًا بنمط اللباس وصولًا إلى فتاوى رجال دين التقعُّر النصيّ: "ومقيَّدة لا ترى الشَّمس وجهها ولا الكاحل؛ ومُتَحَرِّرة تلسع الشَّمس عريَها وتلوِّحه الأعينُ؛ والمبالغة لدى الزّائر، في كلِّ أمرٍ، تخلُّف!" (صفحة 33). يجب أنّ ندعوه الأب الشاطر؟!!!
وهل لأنّه لم يُسند الكوارث الطبيعيّة لإرادته، بل لفعل الإنسان الّذي اغتصب الهواء والتراب والماء، بسبب مخلّفات سبّبت احتباسًأ حراريًّا، وأفعال أخرى غير حميدة: "الإنسان زائر غير مرحَّب به على ذي الأرض، وسيزول عنها يومًا، بل سيُزيل نفسه عنها، بفعل اغتصاب يديه ذا الكوكب وما عليه وفيه، كما بفعل أسلحة يخترعها وجراثيم يُصنِّعها." (صفحة 37)، يجب أن ندعوه الأب الشّاطر؟!!!
وحيث، أنّ لا سبيل إلى عقلنة الواقع المأزوم، في حدّه المتفلّت من عقال أصالة الرؤية، بِمفهوم الموروث المشوّه، القائم على هيكل الخرافات والأوهام والتدجيل والشعوذة، وإسناد كلّ ذلك لحاجة الإنسان بالوصول إلى الربّ. ولأنّ الزائر أوجد الحكمة المفقودة وأدرجها في جميع مراحل الكتاب، وأخرجها من الواقع الجموح في المؤسّسات الدينية والمدنيّة التي أعملت في الحكمة تهشيمًا من أجل الحصول على امتيازات زائلة بزوال الحياة، وأدخلها إلى دائرة الوعي الفردي، حيث لا امتياز لمعتقد على آخر، وغلّب لغة العقل، ومنطق الفلسفة السليم والحداثة في توحيد غاية الأديان، على التقوقع في جاهليّة الانحطاط، من أجل رفْد نواصي الأنسنة التي طالب بها، واقترح منجزات العلم للارتقاء إلى هذه الأنسنة. هل يجب أن ندعوه الأب الشاطر؟!!! :"يبقى على البشر أن يزيدوا من أعمالهم في مجال الخير العامِّ، ويقلِّلوا إلى حدِّ الانتفاء من أعمالهم في مجال الشّرِّ الخاصِّ، وأن يسعوا قدر المستطاع لأنسنة الله وتأليه الإنسان الّذي فيهم!" (صفحة 49).
وكيف لنا أن نطلق لقبًا أو صفةً حسنة على زائرٍ إلهيٍّ، هو الّذي بحوزته ألقابًا تجاوزت المئة. فكاتب هذا المقال المتواضع أحبّ أن يلقّب الزّئر بالأب الشّاطر، لأنّ الأب الشّاطر يعمل لجمع شمل عائلته، وهو بلهفةٍ للقاء كلّ خاطئ يتوب، كما "الابن الشّاطر". حتى ولو كانت عودة الزّائر معاكسة لعودة الابن الشّاطر في الاتّجاه، فالأوبتان تجمعان الزائر، والمنعتق، والابن الشاطر إلى مائدة سماويّة واحدة.
احتجّ ناجي نعمان بالحلم ليقول الواقع، وبحث عن هوية الأنسنة المسلوبة في بئر غموض تضاد المعتقدات. وبين أنسنة الواقع وتشييئه، جعل جدل الحياة، فعل مقاومة فكريّة لتأصيله، ومدّه بأسباب البقاء. كما جعلنا نمتلك مفاتيح حضورنا، وفلسفة وجودنا، ونحن في الحقيقة أسرى جدلنا الداخليّ وتهويماتنا الذاتيّة، ونزقنا الغريب. فكيف جعل صدى هذه الزيارة، يخرج من سرد سطور محبوكة بعناية قدير في كتاب "الزَّائر أو عهد اللاعهد"؟ وهل كانت زيارة الزّائر "الاب الشّاطر" حلمًا أم واقعًا؟