استضافت كلّيّة الموسيقى وعلم الموسيقى في الجامعة الأنطونيّة، يومّ الخميس في 16 شباط 2023، محاضرةً بعنوان " الاكتناه الحاليّ للموسيقات الفنّيّة في لبنان: نظرة ناقد موسيقيّ"، تناول خلاله آلان أندريا (دكتور صيدلة، باحث في الوراثة الجزيئيّة، عازف بيانو وناقد موسيقيّ) إشكاليّة الانحطاط الذي تعيشه الموسيقات الفنّيّة في لبنان.
بدأ المحاضر باستعادة التعريفات المعياريّة والتصنيفيّة للممارسات الموسيقيّة في لبنان، متناولاً مفاهيم اللغة الموسيقيّة (ككفاءة كلّيّة)، والألسُن الموسيقيّة (ثلاثة أنظمة: اللسان الأحاديّ المقاميّ، اللسان الأحاديّ الخماسيّ، اللسان التعدّديّ الطوناليّ)، واللهجات الموسيقيّة (التقاليد والمدارس الموسيقيّة التاريخيّة) والتهجين الموسيقيّ، وكذلك مفاهيم التقاليد الموسيقيّة التكراريّة أو الشعبيّة الحِرَفيّة، في مقابل التقاليد الموسيقيّة الإبداعيّة أو الفنّيّة، وذلك بالرجوع إلى أعمال نداء أبو مراد في علم الموسيقى.
وهكذا، فإنّ ظهور النموذج الحداثيّ للتجديد من الخارج، في مقابل النموذج التقليديّ للتجديد المتأصّل من الداخل، هو ما جعل المحاضرة تتحوّل إلى المنظار التاريخيّ، وذلك انطلاقًا من طرح إشكاليّة الهُويّة الموسيقيّة للبنان الكبير، مع التهميش الذي أوجده الانتداب الفرنسيّ في ما يختصّ بالموسيقى الفنّيّة التقليديّة الأحاديّة المقاميّة المشرقيّة، لصالح الموسيقى الهارمونيّة الطوناليّة الأوروبيّة، رابطًا هذه الأخيرة بمفهوم التقدّم الحضاريّ، ما ترجمه وديع صبرا ومريدوه في تطبيقهم القسريّ للمعايير الموسيقيّة الهارمونيّة على أرصدة التراث المقاميّ الأصليّ (ما آل إلى محو مسافات ثلاثة أرباع الطنين من السلالم النغميّة وإلى إلغاء مفاعيل الإبداع التقليديّ المختصّة بالارتجال)، وذلك باسم تلك الحداثة الوافدة من الخارج، ما أدّى في نهاية المطاف إلى هيمنة موسيقى استهلاكيّة هجينة تحاول التوفيق بين نظامَين متنافرَين، على مثال التحيّة اللبنانيّة الحديثة: "هاي! كيفَك؟ سا ڤا؟".
هكذا ركّز آلان أندريا مقاربتَه التاريخيّة على المعهد الموسيقيّ الوطنيّ، مستنكرًا كون القيّمين على هذه المؤسّسة أرادوا منذ تأسيسها من قبل وديع صبرا، وحتّى إحيائها في فترة ما بعد الحرب من قبل وليد غلميّه، أن "تُضحِيَ الموسيقى الأوروبيّة الطوناليّة الهارمونيّة الموسيقى الوحيدةَ الّتي تستحقّ تسمية موسيقى فنّيّة". ووفقًا له، فقد أدّى هذا النهج إلى "قطع علاقة المتعلّمين بتراثهم الموسيقيّ الأمّ، في حين كان يُمكن لمثل هذه المؤسّسة أن تسعى إلى تنمية متوازية متنوّعة شاملة للتعلّم الموسيقيّ والممارسة الموسيقيّة على أساس كلّ من الموسيقى الفنّيّة الأحاديّة المقاميّة (وفقا لمعاييرها النحويّة والجماليّة الإبداعيّة الخاصّة) والموسيقى الفنّيّة الطوناليّة الهارمونيّة الأوروبيّة، داخل المجتمع اللبنانيّ.
وبالإضافة إلى مشكلة الهُويّة هذه، أعرب المحاضر عن أسفه لترجيح كفّة المعيار الكمّيّ على حساب المعيار النوعيّ في إدارة هذه المؤسسة منذ عام 1991 (باستثناء حقبة بسّام سابا القصيرة، الذي حاول إعادة هيكلة التعليم في المعهد على أساس منهجيّة تحترم التقاليد المشرقيّة والمعايير النوعيّة، وباستثناء المشروع الذي قاده وليد مسلّم لبناء مجمّع موسيقيّ مخصّص للتعليم الموسيقي العالي في ضبيه، بتمويل صينيّ). كما شدّد آلان أندريا على أنّ ذلك التقصير النوعيّ هو تحديدًا ما تسبّب، في مرحلة الانهيار الاقتصاديّ، ومع رحيل الموسيقيّين الأوروبيّين، في إيصال المعهد إلى حالة الانحلال التامّ، على صورة الدولة اللبنانيّة ومثالها.
وأخيرًا، سلّط المحاضرُ الضوءَ على الدور المفيد للمؤسّسات الخاصّة -أي الجامعات المتضمّنة معاهد وكلّيّات موسيقيّة (الجامعة الأنطونيّة، جامعة الروح القدس، جامعة سيّدة اللويزة) ومراكز التوثيق (مؤسّسة التوثيق والبحث في الموسيقى العربيّة ومركز التراث الموسيقيّ اللبنانيّ)، فضلاّ عن المهرجانات الموسيقيّة المتخصّصة- في تنمية الموسيقات الفنّيّة في المجتمع اللبناني.
أمّا النقاش (حضورًا ومن بُعد) الذي أعقب المحاضرة، والذي أدارته ناتالي أبو جودة (رئيسة قسم المعالجة بالموسيقى في كلّيّة الموسيقى وعلم الموسيقى في الجامعة الأنطونيّة)، فقد مكّن من تحديد بعض المسارات العلاجيّة الهادفة إلى تعزيز جودة التعليم وجودة الممارسة الموسيقيّة وضمان النموّ المتوازي للموسيقتَين الفنّيّتَين المشرقيّة والأوروبيّة كلَيهما في لبنان.