النهار

صدق الكلم من جرح الألم في كتاب "حداثة ظهرها إلى الجدار" للدكتور البحريني حسن مدن
المصدر: "النهار"
صدق الكلم من جرح الألم في كتاب "حداثة ظهرها إلى الجدار" للدكتور البحريني حسن مدن
صورة الغلاف.
A+   A-
يوسف طراد
 
الغاية التي توخّاها حسن مدن، من وراء هذا البحث الدقيق، في كتاب "حداثة ظهرها إلى الجدار"، هي محاولة بناء الإنسان الحديث في الوطن العربي عامة وفي منطقة الخليج على وجه الخصوص، فالإنسان هو الّذي يمنح الدول شرعيّة مؤسساتها، فضلاً عن مُسوّغ ديمومتها ورقيها وحسن أدائها.
 
عرض الباحث مجمل التحدّيات التي واجهتها مجتمعات الخليج والجزيرة العربيّة، قبل وبعد اكتشاف واستخراج الذهب الأسود، ومحاولتها ركوب قطار الحداثة ولو متأخّرة. كما حدّد المخاطر التي كانت الجدار بوجه إثارة الوعي، والتحفيز على وضع سياسات ثقافيّة رامية إلى التحرر. كما أصرّ على ضرورة تبنّي توجّهات واعية، وتوظيف هذه التوجّهات مكتسبات من خلال التكنولوجية التي تُعنى باستخراج النفط، خلافاً لسياسات الاحتلال والانتداب قديماً، والسيطرة الحاليّة على منابع النفط، بحجّة حماية دول المنبع.
 
كان المجتمع الخليجيّ مجتمعاً مغلقاً بسبب الطبيعة القاسية المتواجد فيها، فهو مجموعة من العوالم التي يصعب الوصول إليها؛ وكانت مدينة مكّة المكرّمة النّافذة الوحيدة المشرقة على بقية المجتمعات، من خلال مناسك الحج والعمرة. فقد اختار الباحث هذا العنوان بالذّات "حداثة ظهرها إلى الجدار"، نظراً إلى ما يمثّله التراث الخليجيّ الفريد والثري وأحقيّة إظهاره، وتبيان معوقات انتشاره في فضاءات ومسارات بقيّة دول المنطقة.
 
شاء الباحث أم أبى، فإنّ هذا الكتاب هو تأريخ لمرحلة من تاريخ الخليج العربي، حتى ولو اعتبره مروراً في محطّات فاصلة مهمة من هذا التاريخ: "ولم أرد لهذا الكتاب أن يكون تأريخًا للثّقافة في الخليج والجزيرة العربيّة بقدر ما هو وقوف عند محطّات أعتبرها فاصلة في هذا التّاريخ، حيث حاولت قدر الإمكان ألّا أغرق في التفاصيل التّاريخيّة..." (صفحة 15).
 
ظهر هذا البحث تأريخاً واضحاً، بالإضافة إلى عرضه المراحل الاقتصادية والسياسية والثّقافية؛ فالأمثلة عديدة منها: الإضاءة على أول مدرسة للبنات في البحرين حيث كانت هذه الدولة السّبّاقة في تعليم الإناث في الخليج: "وبعد بعض النّقاش والسّجال عُرض الأمر على الشّيخ حمد بن عيسى آل خليفة القائم على شؤون الحكم ولم يعارض، فبدأت المسيرة واستأجرت الحكومة بيتًا في المدينة وافتتحته سنة 1928 كأوّل مدرسة حكوميّة للبنات في البحرين ودول الخليج قاطبةً" (صفحة 144).
 
والإضاءة على أول مطبعة، والكلام هنا عن خالد الفرج: "وبحكم هوايته للطّباعة وخبرته فيها من خلال تجربته السّابقة في الهند، أسّس خلالها أوّل مطبعة عام 1953 (المطبعة السّعوديّة بالدّمام)، بدعم من الملك سعود،... وقد أتاح تأسيسها للصّحف الأهليّة النّاشئة في المنطقة الشّرقيّة آنذاك أن تطبع محليّاً" (صفحة 197). كما أضاء على أول مطبعة حجريّة في البحرين: "يذكر أن البحرين بدأت تجربتها في مجال الطّباعة ابتداءً من عام 1913 حين تعاون الحاج أحمد بن عبد الواحد فرمرزي والحاج ميرزا علي جواهري في جلب مطبعة حجريّة إلى المنامة، وتولت طباعة القرطاسيّات التجاريّة والكرّاسات الدينيّة والعلميّة." (صفحة 207).
 
وعن المسرح وأوّل نص مسرحيّ ورد في الصفحة 204: "ولا تقف الأهميّة الأدبيّة لإبراهيم العريّض في منجزه الشّعري فحسب، وإنّما أيضاً في المنجز المسرحيّ، حتّى إنّ إبراهيم غلوم يعدّ مسرحيّة (وا معتصماه) التي كتبها العريّض سنة 1932 أوّل عمل مسرحيّ مكتوب في منطقة الخليج يصلنا من تلك الفترة، يوم كانت الثقافة المسرحيّة فقيرة...".
 
كما أشار في الصّفحة 225 إلى أوّل أديب عربيّ عُني بنشر تاريخ الجزيرة العربيّة، والكلام هنا عن سليمان بن صالح الدّخيل: "... فقام بنسخ بعض الكتب الخطيّة التّاريخيّة النّادرة التي ساعدته فيما بعد على إصدار مجموعة من الكتب عن تاريخ المنطقة وسكّانها، منها كتاب (عنوان المجد في تاريخ نجد) و(تحفة الألبّاء في تاريخ الأحساء) ووصف ناشر الكتاب ومؤلفه بكونه ( أوّل أديب عربي عُني بنشر تاريخ الجزيرة العربيّة، في مطلع القرن الحديث، وهو يمثّل بحقّ دور الرّيادة في هذا السّبيل".
 
بناءً على ما ورد فقد تبيّن التأريخ الواضح ضمن الكتاب، بالإضافة إلى المواضيع العديدة الأخرى التي عرضها، والمتعلقة بالتطوّر الاقتصادي والسياسيى الّذي فرضه اكتشاف النفط؛ والإضاءة على أعلام عديدين من تجّار وصحفيين ومثقفين وداعين إلى التحرر من الاحتلال الإنكليزي والعثماني. ناهيك عن الانفتاح على شبه الجزيرة الهندية وثقافتها، والتبادل التجاري بينها وبين الخليج العربيّ، وأسباب الاضمحلال في مجال الزراعة واستخراج اللؤلؤ.
 
كان قدر الخليج أن يظلّ في حال عزلة دائمة عن محيطه، فهذا الكيان القائم على الزراعة وصيد اللؤلؤ، كان الوجهة للاحتلالات قبل الحداثة المكتسبة التي فرضها النفط، كما كان عاجزاً وغير مؤهّل للمعافاة. فالحداثة لم تنبع من داخله، ولم تمنحه إيّاها القوى الخارجيّة إلّا بعد كرّ وفرّ. غير أن المسألة ليست قدريّة فالبؤس كان من صنع الإنكليز والعثمانيين، وبات الخليج أسير الإسلام المتشدد الّذي حاول كبح التبشير المسيحي الّذي فرضه الاحتلال الإنكليزي، بالرغم من ظهور عدّة رجال دين ينتمون إلى الإسلام الراديكالي المنفتح: "لم تؤدِ الاحتلالات الأجنبيّة -خاصّة الهيمنة البريطانيّة الطّويلة- إلى دخول مظاهر الحياة والثّقافة الحديثتين وانفتاح الإمارات على العالم الخارجيّ، على نحو ما حدث مع الآثار الحاسمة لحملة نابليون على مصر مثلاً، وظلّت المنطقة تعاني ممّا وصفه عبد العزيز الجاسم ب(النسيان المنظّم) و(التجاهل المزدوج) الغربيّ والعربيّ، مع فارق الأسباب والأهداف بطبيعة الحال" (صفحة 105).
 
خرج الصحو المؤجّل من جرح الألم، فكتب حسن مدن صدق الكلم، ومدّ بساط التساؤل حول جدوى الارتهان لأمل بارق، أنضجته ثقافة الذهب الأسود؛ فهل أنّ الحداثة الظاهرة على بلدان الخليج ستدوم بعد شح النفط؟ نعم فملوك الخلجان يعملون على القفز بالمجتمعات إلى حداثة مستدامة، مبنيّة على ثقافة متنوّعة في جميع المجالات العلميّة والاجتماعيّة والأدبيّة والفنيّة، ودمجها بالحداثة المكتسبة؛ وحسبنا أن نذكر المكتبات الحديثة الكبيرة التي أنشأوها في بلدانهم ومنها: مكتبة جرير التي هي من أشهر المكتبات في المملكة العربيّة السعوديّة، ومكتبة أم سقيم العامة في دبي، والمكتبة الرئيسيّة بجامعة السلطان قابوس والتي تضمّ 233695 مجلداً و8096 مادة سمعيّة وبصريّة، ومكتبة الكويت الوطنيّة الحديثة وغيرها من المكتبات.
 
على أمل أن يعاد العمل بالسوق العربيّة المشتركة، والذهاب إلى الاتّحاد العربيّ وتوحيد النقد فيه، على غرار الاتحاد الأوروبي، فهذا هو "الربيع العربيّ" الحقيقيّ، وهذا لن يحصل في ظل الوعي الغائب، والحروب الدائمة والمسيطرة على خارطة الوطن العربيّ.

اقرأ في النهار Premium