يوسف طراد
إذا كانت رواية "خبز على طاولة الخال ميلاد"، وهي الرواية الأولى للكاتب والمحرّر الليبيّ محمد النعّاس، قد فازت بالجائزة العالميّة للرواية العربيّة (البوكر العربيّة) لعام 2022، والتي تضمّنت رأياً بالنسبة للبكيني، تمحور حول الصّراع الدائم بين الأحاسيس الصّادقة في الحبّ، وقيود الحريّة، والتديّن وليس الدين والتقاليد، فإنّ أزمة البكيني تتجدّد كلّ عام في لبنان وتفجّر زوبعة تتخطّى المسابح إلى وسائل التواصل الاجتماعي، مهدّدة العيش المشترك.
على الرغم من أنّ الكاتب، قد قدّم خلال الرواية، نقداً وافياً وعميقاً للعلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع المحافظ، وزرع إشكالية العلاقة غير المأمونة بين الزوج، والزوجة والحماة، في البيئة العربيّة وخاصة في شمال أفريقيا، من دون أن يعمّم هذه التصوّرات السائدة عن الرجولة والأنوثة، في هذه البقعة الجغرافيّة على الكوكب الأزرق، وبالرغم من أنّ القراءة كانت سهلة على جميع أنواع القرّاء مبتدئين ومتمرّسين، فكأنّك تقرأ آخر الرواية بحبر أوّلها، لتشابه السرد السلس الذي لا يحوي عضلات لغة، ولا حاجة لقارئ أن يعود إلى المعاجم إلّا نادراً، فقد أتت نهاية القصّة غير منسجمة مع أحداثها، فالصّفات التي يتمتّع بها بطل القصة، لا تخوّله ارتكاب جريمة عن سابق تصوّر وتصميم.
إنّ تعريف الرجولة المثالي، بحسب ما يراها المجتمع الليبيّ، قد جعل بطل الرواية "ميلّو" يجاهد في أن يكون رجلاً بعد محاولات عديدة باءت بالفشل، وتجربته في معسكر التدريب خير مثالٍ على ذلك.
الدور الّذي خصّ المجتمع الليبيّ المرأة به، وقد اضطلع به بطل الرواية، فيما عملت زوجته على إعالة المنزل، وهذا عمل الرجل في الشرق المقيّد بالتقاليد، وانتصار الواقع في وجه التقاليد من خلال عرض الرواية للتساؤلات حول التصوّرات الجاهزة لمفهوم "الجندر"، وجماليّة صنع الخبز الّذي تجلّى في نفح الحياة بالدقيق عند اختماره ونضج عجينه، وجعل هذا العجين بطلاً على أهميّة البطل الأساسيّ للرواية، والتشويق في القراءة الّذي تجلّى في إخفاء مسار الأحداث، وإظهاره بعد عدّة صفحات كحادثة محاولة انتحار بطل الرواية وكسر رجله، وعرض التأثيرات النفسيّة والاجتماعيّة بألقٍ ضمن سرد لا مبالغة فيه، قد حوّل انتباه القارئ، عن الرسالة السياسيّة التي أرادها الكاتب أن تصل بطريقة أدبيّة، ضمن نقد سياسي راقٍ. فقد وردت تلميحات عديدة في النص، عن نظام الحكم القاسي في ليبيا، والقبضة الأمنيّة الحديديّة لهذا الحكم، في زمن جرت فيه أحداث الرواية. نورد هنا مقطعاً من الصفحة 8 على سبيل المثال لا الحصر: "إلّا أنّ قرار الأخ القائد الذي سعى فيه إلى أن يكون الناس شركاء لا أجراء، جعل أبي يُعجّل بطرد كلّ العاملين لديه، قبل أن ينقلبوا عليه". وللحدّ من الإبداع في صناعة الخبز، وهنا غمز الكاتب من زاوية غير منظورة لأمور أخرى تتعلّق بتقييد الإبداع في جميع المجالات، لأنّ الإبداع وليد الثقافة، والثقافة توّلد الوعي، والوعي يوّلد الثورة على الظلم، فقد وحّد القائد سعر الخبز لعدم إفساح المجال لصناعة متقنة لأنواع خبز في ليبيا يتناوله المجتمع الأوروبيّ، فقد ورد في الصفحة 9: "والقائد أراد لسعر الخبز أن يكون موحّداً، في كلّ أنحاء البلاد...". وقد تجلّى في مكان آخر من الرواية، عرض الكاتب للوضع السياسي المغلّف بالأدب السّلس في اعتباره ليبيا سجناً كبيراً: "عمّ زينب الفنّان الداعر الذي تمكّن من تحويلها إلى كائن لا يمكنه العيش وسط حيطان البلاد" (صفحة 115).
إذا قرأ قارئ لبنانيّ هذه الرواية اليوم، في ظلّ التجاذبات التي تجري في المجتمع اللبناني حول ارتداء البكيني، أو البوركيني، أو الفيس كيني، يجد الكاتب محمّد النعّاس قد وضع البكيني على طاولة القراءة بجرأة كاتب، كالجرأة التي تميّزت بها عارضة الأزياء، راقصة التعري "ميشلين برنارديني" وعرضت أوّل لباس بحر من البكيني عام 1946، رغم وصفه لخجل بطل القصة ورغبته بالسباحة مع امرأة حرّة: "لم يدم نقاشنا حول البكيني سوى دقائق، كادت تبكي عندما عرفت موقفي من الأمر، فكّرت أنّني سأسعد عندما أراها ترتدي ملابس البطّيخ تلك، ولا أخفي عنك أنّني كنت سأكون على شيء من السعادة، فليس أجمل من أن يسبح المرء مع امرأة حرّة. ولكن كنت متوتراً من فكرة أن يرى رجلٌ آخر حتّى إن لم يكن ليبياً جسد زوجتي" (صفحة 92).
إذا كانت الكاتبة هدى بركات، قد أصغت ضمن روايتها "حارث المياه" لألم النساء الصّامت، التوّاقات للمسات الحرير الباسم الرقيق، وجعلت حبّ النسيج الحي يطغى على كلّ حبّ، في كلّ لباس تختاره الأنثى، فقد خشع يراع محمّد النعّاس إلى حاجة المجتمعات إلى الحريّة، ووصف الألم في قلب البعل الّذي تقيّده تقاليد، وتجبره على منع زوجته ممارسة هواية السباحة بالزيّ الذي تريده، وذلك ضمن رواية وصفت جمالية صنع الخبز، وعرض التصورات الجاهزة لمفهوم الجندر، وانتصار الفرد في وجه المجتمع.