يوسف طراد
ودوماً يعود
كلّ كاتب، ومفكّر، وصحافيّ، وفنّان، وموسيقيّ، وعالِم... يعود! يعود مع كلّ كتاب يرى النور، يعود مع كلّ عرضٍ لمرسحية، يعود مع كلّ مقال يزرع الوعي في العقول، يعود مع كلّ حفلٍ ثقافيٍّ وانتاج أدبيٍّ وعلميٍّ... وها أنّ جورج شامي قد عاد، عاد كما كان فارس الكلمة والأقصوصة، وأطلّ علينا من كتاب "ثائر يزرع الأمل" للكاتبة كلود أبو شقرا.
إذا وُجد كانط في عصر النور، وفكّر بعقله لا بعقل غيره، وشعر بأحاسيسه لا بقلب غيره، وأدخل النقد الأدبي مملكة العقل، حيث يولد المنطق، فإنّ كلود أبو شقرا كتبت في عصر افتراضيّ، تُوزَّعُ فيه الجوائز والألقاب على كلّ شويعر، وعلى كلّ من إدّعى الأدب وكتب سطراً. لكنّها كانت بعيدة كلّ البعد عن الافتراضية، والدليل، أنّه قد تجلّت المناقبية الصّادقة للجنة التحكيم، العائدة لوزارة الثقافة اللّبنانيّة، ومنحت كتابها هذا: "ثائر يزرع الأمل" الجائزة المخصّصة ليوم الأديب عن عام 2022.
لهذا الكتاب مزايا كثيرة، جمعت بين الصّدق والمحبّة والأكاديميّة. فقد اتّبعت الكاتبة نهجاً لم يُرسم سلفاً، بل رسمته حياة جورج شامي المملوءة بالمحبّة والعطاء، فكان هذا الكتاب رسالة تبهر القارئ، في زمن شحّ فيه نظر القرّاء.
البعض لا يضع الحبّ في النصوص، لكنّ محبّة الكاتبة ظهرت جلياً على عتبة الكتاب، حين نقلت رصد أمين ألبرت الريحاني عن جورج شامي الّذي ورد في أرشيفه تحت عنوان: "تجاوز الحطام"، وجعلته مقدمة للكتاب تحت عنوان "الكلمة التي تنفخ الرميم" مع ما يختزله هذا العنوان من محبّة ومعانٍ أدبيّة.
إنّ وضع الكتابة عن كاتب أو شاعر أو عالم، هو أخطر مقتل في صنعة الأدب، فيجب أن تأتي الكتابة ضمن قَولبة منضبطة بمعايير الصدق والقيم والمحبّة. وبناءً عليه، فقد استطاعت أبو شقرا أن تعيش اللّحظة التي يصعب رصدها لغير من إتّسم بالحبّ والواقعيّة، فعمدت إلى تدجين اليراع، ولم تعتقه من عناق يدها إلى راحته، إلّا بعد أن جعلته يُظهر العناية بالفكر والجمال، وقد كتبت بكفاءة لم تتوفّر لكثير من الأقلام. فاستنطقت الحكمة من طفولة جورج شامي، والمعاني من مسيرته اللأدبيّة الزاخرة بالعطاء، وأخرجت منها مادّة الكتاب إلى هدف قراءته، من دون أن تفرض قيوداً على مضامر الوعي المنفتح على صلة الأدب بحياة الكاتب الّذي كتبت بأدبه.
الثقافة بالنسبة لجورج شامي كانت حصيلة ثبات في مجال الأدب، وخُلاصة لاستراتجيّة طويلة المدى، ومعركة لا أحد يعرف كم تطول. لكنّه كان يعرف مفاعيلها على المجتمع، بقدر ما وعى هدفه البعيد. كان يراها بوضوح الكاتب المناضل، كونه عاش في قلب كلّ حدث كتب عنه، فأدرك مدلولها الباني للمجتمع عبر الزمن، وقد باح قلمه بكلّ ما في داخل الكاتب من قدرة على الرؤيا، فقد وردت هذه الصفات في الصفحة 125 من الكتاب، على لسان أبو شقرا: " إذا لم يكن المثقف في قلب الأحداث وفاعلاً فيها ومساهماً في تغيير مسارها فلا مبرر لوجوده، ولا مسوّغ لدوره... لذا كان لا بدّ للأديب جورج شامي من أن يثور أمام تراجع دور المثقف في عالم اليوم..."
ولأنّ العالم مليء بالمحبّة بالرغم من قساوة الحياة، من منّا لا يحبّ الأقصوصة الهادفة التي توصّف الواقع، وتُظهر البغضاء وتملأ السطور بالحبّ؟ فكانت ومضات فرح ومعاناة، ضمن إضاءة أبو شقرا على باقة من من قصص جورج شامي : "كان لا بدّ من أن أعيد نشر هذه المقالات الأربع التي كتبتها على أثر كلّ رواية صدرت لجورج شامي لتأتي تكملة لروح هذا الكتاب ونماذج حية لأبعاد انفعالاته العصية على كل تمرّد." (صفحة 193).
أطلقت كلود أبو شقرا، في متن صفحات هذا الكتاب الّذي لخّص حياة، ومسيرة أديب من لبنان، أطلقت وثبة في الأدب الخالص الّذي أضاء على كتابات جورج شامي في الاجتماع، والوطنيّات، والمرأة، والأم، والطفولة، والحرب، والعولمة، والإعلام والسياسة... فكان كتاب "ثائر يزرع الأمل" الّذي صدر ضمن منشورات دار نلسن.