ريجينا ملوك
جحيم
أتراكَمُ في الزوايا الحارّة
يُؤرِّقني أنْ أنتهي من دون بقعة دمّ على قميصي
أحلمُ برصاصةٍ طائشة تدخلُ نافذتي
تُحصِّنُني من مرور الوقت
أستديرُ قليلاً، وأكشفُ ظَهري للهواء
ريثما ينتهي العمّالُ من تمسيد الإسمنت على صدري
ينبتُ العشبُ على قدمي
ثمَّ يختفي فجأةً كابتسامات المارّة أمام واجهات المحلاّت
لن يكون لي ثوبٌ طويل
سأُخيطهُ قصيراً على الوديان
لأُظهِرَ ساقيَّ الحزينتين لكلِّ من يرغبُ بالبكاء
أُحدِّثُ نفسي عن الغرباء
يردمونَ التُّرابَ على وجوه الفقراء
يأكلونَ حتّى عينيَّ اليتيمتين
البردُ قارسٌ في أسفل العالَم
ثمّة معطفٌ وحيدٌ أُخفي بهِ وجوهَ من أحببتهم في الجحيم
أُخرجُ جيوبَهُ كي تبدو أكثَر أنوثةً
وهي تتدلّى كمَشانقَ للزمن
بضعةُ سنتيمترات فقط
وأصلُ إلى ذاتي
الرؤية تغيبُ عن عيني
أحفرُ قليلاً
تساورُني الشُّكوكُ
فتظهرُ لي صخرةٌ تعيقُ تفكيري
هيَ مُصادَفةٌ فقط
ليسَتِ المخيِّلة التي ترمي الحجارة في جُحري
الهُوَّةُ تنتظرُني
لتكُنْ صورة أبي معي إذن
هيَ الوحيدةُ التي تعرفُ الطَّريقَ إلى قبر جدِّي
وهوَ يحاولُ أنْ يدفعَ التُّرابَ عن عينيهِ،
ويراني .
***
المدفأة وحيدةٌ في الغرفة
أجلسُ طويلاً أمام وجهي
يؤلمُني انهمارُ المطر فجأة خارجَ النّافذة
كأنَّهُ يمسكُني من كتفي
ليطلقَني إلى الفضاء
هذه الهواية التي مارستُها في نومي
ولم أستطعْ نسيانها
كم بقيتُ في هذه البقعة المأهولة بالبالونات؟!
أفقعُها كلّما قرعَ رجلٌ ذاكرتي
ودخلَ بقدميهِ الملوثتين بالوحل
سبعةُ أيام في الغرفة الباردة
أجلسُ القرفصاءَ أمامَ وجهي
ليعادَ خلقُ كُلِّ شيءٍ بطريقةٍ مختلفة
أنتظرُ أنْ يلفَّ الإعصارُ
الطاقةَ الوحيدةَ في الجدار
تخرجُ الدّيدانُ منّي
فأولدُ من تحلُّلِ جثَّتي!
في بقعةِ الضوءِ المُثلَّثة للزاوية
أُسلِّطُ لساني على رطوبة الجدران
الروزنامة في يدي
أشيرُ بها إلى يومٍ جديد
أرمي جسَدي بينَ الخطوط
لأبقى أطولَ فترةٍ من دونِ ألم
الرحيلُ سبقني ليفتحَ البابَ للأطفال
وهُم يحلمونَ بالفراغ المحشو بالكلمات البذيئة
أرقصُ كغابةٍ في الجوار
تجلسُ القططُ وراءَ المكاتب
تُنظِّفُ الفئرانُ أنابيبَ الصرف الصحّي
بينما تنامُ الدببة طوالَ فصل الصيف
تبحثُ في نومها العميق
عن أنثى
تفقعُ البالونات في طريقها
وتصعدُ الحافلةَ المتّجهة إلى المقبرة
المدفأةُ وحيدةٌ في الغرفة
فرغتْ من الوقود
الظَّلامُ يقتربُ، ويتمدَّدُ
كنقطةِ زيتٍ على قلبي
عودُ ثُقابٍ واحدٍ يكفي
كي أرى ولادةً واضحة لحريق هذا العالم...
***
يدي مملوءة بالماء
أستعيضُ عن تلعثمي بكوب ماء
لا أرغبُ بشربهِ
أضعهُ أمامي على الطاولة
وأحاولُ أنْ أنسجَ حولَهُ هالةً من الضيوف
أُراكِمُهُم في كُمِّ قميصي
وأُخرِجُ منهُم وجهكَ كي أراهُ ضاحكاً
يندلقُ قليلٌ منه
البحرُ خلفَ رأسي يموجُ بالصخب
سُلَّمُ البيت ينهمرُ كلَّما مدَّتْ جارتي يدَها لتلقي التحيَّة عليَّ
أنكمشُ كأنّي يرقة
وأزحفُ في اتجاه الحقول التي داستها عقولُ الميّتين في عيني
من أينَ لي كُلُّ هذهِ الجرأة،
ويدي مملوءةٌ بالماء؟
أقاومُ أنْ يأتيني صوتكَ
فأفضَحُ نفسي، وتسيلُ المياهُ من أصابعي
مذ كنتَ هناكَ في كوب الماء على الطاولة
وأنا أُفكِّرُ كيفَ لي أنْ أُعيدَ ما أخذهُ الضبابُ من نظَري
وأنا أنشرُ الغسيلَ على النافذة
وأُقنِعُ جلدي الجافّ أنَّ الشمس ستعيدُهُ نبيذاً
أصيرُ بلحظةٍ مجهولةَ اللون
كُلُّ ما حولي يشيرُ إليَّ
لكنَّ وجعي عميقٌ بلا ابتسامةٍ واضحة على شفتيهِ
بلا عصفورٍ ينقرُ اللحمَ الميتَ على يدِ صاحبهِ
أُلصِقُ بهِ اسماً مستعاراً
وأُناديهِ كلَّما عطشتُ، وتركَتْني المياهُ في الكأس وحيدة
وجهُكَ في يدي يحاولُ أنْ يخرُجَ
هوَ أيضاً لا يعرفُ السباحةَ في المياه الآسنة
سأهدي اليه منديلاً يُلوِّحُ بهِ حينما يغرق!
***
في انتظار موديلياني
"عندما أعرفُ روحكِ سألوّنُ عينيكِ"
بينما بقعةٌ بيضاءُ على ثوب عشيقتهِ تشي بالفضيحة!
موديلياني...
كنْ خجولاً بريشتكَ
دعها ترمي إلى حيثُ لا تشاءُ
دَعْها تعرِّجُ عليها كقطعة حلوى
أنتما إن لم تتحدا الآن ستنتهيان غداً.
لم تكنْ جيني (حبيبة موديلياني) خبيرةً بِعدِّ أصابعكَ على قلبهِا
حاوَلَتْ كثيراً أنْ ترميَ لونَها من أعلى الغصن، وفشلَتْ.
تدحرَجَت مراراً في رأسكَ، كي تثملَ
... وجدَتْ رأسَها في زجاجة.
موديلياني...
هيَ لا تسمعُكَ
اخفضْ صوتكَ قليلاً
اتركْ عينيكَ معلّقتين أعلى قميصهِا
هي أيضاً تفكُّ أزرارَها كُلَّما مرّتْ أمامَ حديقةٍ مُغرية
تفتحُ فمَها للغُرباء كلّما عطشَتْ!
تُغني..........
تُغني إذا مرّتْ أمامَ وجهِها كشبح.
مودلياني...
للمرّة الأخيرة قلبي سجادةٌ
وللمرّة الألف البابُ يفتَحُ القفلَ ليدكَ
تقدّمْ وخذْ فراغكَ من رئتي
واملأْ رئتيها دخاناً... تانغو... وفالس...
ترنّحْ على أصابعِ قدميها؛
جيني امرأةٌ
تأتي عند الظهيرةِ، وتغيبُ في آخرِ اللوحة
تقفُ بينَ رمشكَ واللوحة كي تطيلَ عمرَ الضوء الزائِغِ بينكُما...
موديلياني...
ثمةَ لونٌ واحدٌ يُفضي إليَّ
ينتظرُكُما هُنا.
ثمّةَ أيضاً
... قلبي المليء بالدَّبابيس.
***
كلاكيت
سأدخلُ بيتكَ
البيتُ الذي حلمتُ به طويلاً
سيراً على القلب!
...............
(مشهدُ بلوكيشن آخَر)
أنا أنظرُ إلى الوراء وأنتَ أمامي
تعطي الزمن فرصةً
ليديرَ ظهرَهُ، ويطعَنَنا!
.....................
5
4
3
2
لم نكنْ قَدْ كبرنا بعد
انزعْ زغبكَ عنّي
أنا الجنّية (الموديرن)
أفتحُ النافذة على الوراء
وأصيحُ!
.....................
(نهاري خارجي)
لم يكُنْ قلبي الذي وطئتهُ
كانَ عشباً!
.....................
(ليلي داخلي)
سيمرُّ الليلُ سريعاً هذا اليوم
أسرِعْ وعلِّقْ عينكَ على نهدي
لا شيءَ يستحقُّ التحديق طويلاً!
.....................
(cut)
الباحةُ الخلفيّة في الذاكرة
أوقِفوا التصوير
ثمة مجزرةٌ للأصابع
وثمة شخصٌ واحدٌ
ينظرُ من بعيدٍ
ويُغلِقُ كفّهُ.
***
الرصاصة والهاوية
قالت لي صديقتي ذات يوم: الرصاصة التي تسمعينَ صوتَها لا تخافي منها.
صديقتي كانت تتكلَّمُ من ناحية علميّة، فالرصاصة القريبة لا تسقط شاقوليّاً على رأسكَ، أمّا أنا فقد تأمَّلتُ كثيراً في هذه الجملة وأنا استعرضُ شريط ذاكرتي: كثيرةٌ هيَ الرصاصات التي تلقيتُها، ولم أسمعْ صوتَها!
كنتُ أراها فقط وهيَ تسيرُ ببطءٍ مع الهواء الداخل إلى جسدي.
مرَّةً كنتُ أبتلعُها عن طيب خاطرٍ، ومرَّةً ألفظُها ككلمة نابية لم أستخدمها من قبل، وجميعُها كانَ لها إمّا شكلُ غيومٍ بريئة أو مُصارِعينَ أشدّاء!
كانت هذه الرصاصات زوّادتي كي أدركَ معنى أن يكونَ الإنسانُ مرميّاً كجُثّةٍ، وهو لا يزالُ يتنفّسُ، ولأنَّني كنتُ عاجزةً عن الاقتناع أنَّ الموتَ هو السَّبيلُ الوحيدُ للحياة؛ حاولتُ دائماً أن أضعَ حزني في علبة الرصاصات التي جمعتُها، وأُحكِمَ الإغلاقَ عليهِ.
أرى الآنَ الرَّصاصة فاتنةً ومُثيرةً كما لم أرَها من قبل.
أراها قادرةً أن تُحرِّكَ الهواءَ السّاكن حولَ مخيِّلتي، وتجعلُني أترقَّبُ إلى أيِّ جهةٍ سوفَ أسقطُ، وأيِّ طريقٍ سوفَ تُعبِّدهُ ركبتاي بمحبّة: الترقُّبُ هوَ الشعورُ الأجمَلُ الذي يسيرُ بكَ إلى الهاوية. الهاويةُ التي ظننتُها ذات يومٍ حفرةً عميقة، وقامتْ هيَ بانتشالي.
***
أستطيعُ أنْ أرى نهاياتي
أستطيعُ أنْ أرى نهاياتي من شُبّاك كُلِّ غرفةٍ أدخلُ إليها، أنْ أعجنَ كُلَّ ما نطقتُ به عن قصدٍ أو عن غير قصدٍ، أُكوِّرهُ وأرميهِ عند أوَّلِ منعطف.
تلكَ هيَ الطريقة الوحيدة لأقفَ على قدميَّ مُوجِّهةً رأسي نحو آخِرِ كلمةِ وداعٍ قالها عاشقٌ لحبيبتهِ تحت درج بنايةٍ مهجورة. ليستِ الأشياءُ حولي هيَ التي تجعلُني أتحرَّكُ. أمارسُ طقوسي كأنِّي ولدتُ تحت ظلِّ شجرة في صحراء غير واضحة المعالم، أو كأنِّي شربتُ من البئر ذاتها التي ضاقتْ بها رؤوس الأبرياء المقطوعة، أو رُبَّما انتُشِلتُ من فم آخِرِ جنديٍّ يقاتلُ في معركةٍ خاسرة، فوجدتُ نفسي أحملُ الرّاية المُمزَّقة بيدٍ وباليد الأخرى أُطيحُ الجنديّ المُتبقِّي على رقعة الشطرنج. ليستِ الأشياءُ حولي هيَ التي تجعلُني أتحرَّكُ. أمارسُ وحدتي كأنّي ألتقيها أوَّل مرّة: أضعُها في فنجان قهوة، في صوت إيديث بياف، في قصيدة طويلة لريلكه، في أحاديث تافهة لأشخاص لا أهتمُّ لأمرهم، في إبر الخياطة الخاصّة بأمّي، في الأيام التي أعرفُ بداخلي أنَّني لن أعيشها أبداً.
أعرفُ وأنا أسندُ رأسي إلى الجدار المتصدِّع، أعرفُ تماماً ما معنى أنْ أرى نهاياتي. ربّما أختصرُها جميعها في نهايةٍ واحدة تركضُ أمامي كلَّما اقتربتُ منها، تُسابقني إلى المُنقلَبِ الآخَرِ من الأُفُقِ وهو يتسللُ من ثقب الباب، ثم يغادرُ تاركاً ندوباً واضحة على وجهي، وماحياً خُطوات المارّين بجانبي رويداً رويداً.
نعم، أستطيعُ أنْ أرى نهاياتي، وهي تقفلُ النهارَ بانحناءة شجرة الليمون في الحديقة الخلفيّة، ولكنْ ما لا أستطيعُ تصديقَهُ هوَ أنْ أراها وهيَ تعبرُ الطريقَ ببطءٍ قادمةً نحوي بكاملِ أناقتِها.