يوسف طراد
لم يحدّد جورج يرق، الفرق بين الموت البطيء والموت السّريع والهائج. بل دمجهما في حالة واحدة، لموتٍ من نوع آخر مختلف، يتأرجح بين الأمل بالشّفاء من حالة فقدان النظر، والخيبة من حالة مستعصية على الشّفاء، ضمّنها رواية بعنوان: "موتٌ متواصل".
تنتمي الرواية إلى الأدب الواقعي، فقد صوّر يرق حياة شقيقته "جورجيت" تصويراً واقعياً، من دون إغراق في المثاليات، أو جنوح نحو الخيال. وسادت واقعيّة الحياة التي عاشتها على جميع فصول الرواية. وقد أعاد إنتاج الواقع أدبيّاً وفنيّاً بأقصى ما يمكن من أمانة.
لغة الرواية سلسة وسهلة الفهم، جعلها جورج يرق علاقة مميّزة بين الألم والأمل، فكانت بنية هذه اللغة مقياساً لهندسة بناء الواقع. وقد انتصر بهذه الّلغة للإنسان وهو يصارع من أجل الانعتاق الكليّ الدائم، من حالة المرض إلى حالة الاستقرار النسبيّ. لذلك تعلّقت شخصيّات الرواية بالطوباويّات والتقاليد المعلّقة بالوهم.
إنّ ما بين الموت والحياة، تمرّد الّلحظات في اضطراب الكائنات، فمن يدرك سرّ هذا العمر وغرابته؟: "من يعيش منتظراً الموت يفقد الاستمتاع بالحياة. هذا الانتظار أصعب من الموت نفسه" (صفحة 9). من هذا الواقع الذي عاشته جورجيت، نبتت أحلام اليقظة، وقد راودتها أكثر من مرّة. وقد ذكرها الكاتب في أكثر من مقطع من الكتاب نذكر منها، والكلام على لسان جورجيت: "لولا أحلام اليقظة التي كثيراً ما تراودني لكان عبور الوقت ثقيلاً... رائع أن يحلم الإنسان عندما يغفو في الليل، وعندما يمضي به الشرود في النّهار إلى عالم مختلف." (صفحة 67)، "لا استطيع تعداد حكايات اليقظة التي عشتها في رأسي، ولا الشخصيّات والحوادث." (صفحة 78)، وعندما اقتربت النهاية لم تكن الأمنيات قابلة للتحقيق: "خياري المفضّل أن أموت وأنا على فراشي في الغرفة الصغيرة بالقرية. أو وأنا أمشي في الدّار مع أحلام يقظتي وأبطالها." (صفحة 234).
عرّف البروفسور (جيروم سينجر) أستاذ علم النفس في جامعة (يال) الأميركية YALE أحلام اليقظة:" بأنّها تحويل الإنتباه من حالة فيزيائية أو عقلانية، باتّجاه مشاهد خياليّة ينسجها الدماغ لدوافع باطنيّة." فقد قضت جورجيت قسماً من أوقاتها سارحة في دنيا الأحلام، حيث متعة الهروب من واقعها الضاغط والمغاير للآمال والتطلّعات. وقد نسجت أحداث عالم تمنّته لكنّها لم تعش تفاصيله، فتذوّقت طعم الشّفاء والسّعادة، وهما هدفان صعب عليها تحقيقهما في الواقع.
هل قال لنا جورج يرق على لسان شقيقته، إن أعضاء جسم الإنسان نفايات مكتومة القيد؟ فهل أنّ الإنسان نفسه يصبح هكذا بعد أن تغادره الروح رغم احتفاليّة الموت؟: "لا أدري ماذا حلّ بأصابعي الثلاث. لم يخطر لي السؤال عن مصيرها. حتماً رموا بها حيث يُرمى بأكياس المصل الفارغة والخِرق الملوّثة بقيح المرضى وأوساخهم والميكروبات." (صفحة 187).
احتلّ عطاء الراهبات قسماً محبّباً من الرواية، فهنّ يعطين ويساعدن، برقيّ ورحمة ومحبّة. وهذه المساعدة تأتي ضمن ضوابط عقلانيّة محدّدة، كي لا تذهب إلى غير مستحقّيها. ظهر هذا العطاء، وطرق التأكّد من جدوى استحقاقه جليّاً بين السطور، فعمّة جورجيت من راهبات دير الناصرة في فلسطين المحتلّة. وقد عملت جهدها لمساعدة ابنة أخيها جورجيت، وأمّنت تكاليف العمليّة من أجل إعادة النظر لعينيها، وجاءت مساعيها الحميدة بالنفع والشفاء. وها أنّ كاتب هذه الرواية الواقعيّة، قد أسهم مساهمة فعّالة ضمن حملة كتاب وقمح التي تعنى بتأمين علاج للأمراض المستعصية، ومحلول لغسيل الدّم. ووهب هذه الحملة العديد من نسخات الرواية، وقد كتب عبر وسائل التواصل الاجتماعي: (..... حماستكم جميعاً وغيرتكم ولهفتكم جعلت "موت متواصل" أكثر من "كلمة رحمة"عن نفس أختي الحبيبة جورجيت. جعلتها دواءً لمريض لا يملك ثمنه، وبدل جلسة غسيل كليتين لمريض قد يرى وجه ربّه إن لم يخضع لها. اختصاراً، معكم تحوّلت "موت متواصل" إلى "حب متواصل"). فكانت كلّ نسخة كراهبة متفانية في العطاء، ومردودها لمن يحتاج علاجاً.
هذه المساهمة جعلت رواية "موتٌ متواصل" ذات الأدب الواقعيّ الجميل، عطاءً في مجالات الإنسانيّة. وأصبح واقعها الموصوف بأجمل أسلوب، أدباً وممارسة.