يوسف طراد
من شجن حناجر، انسكبت مسرحيّة "٣٣ صلاة في جوف الحوت"، للكاتب المسرحي يوسف رّقة على أرض الواقع، موصّفة المعاناة التي جعلت الوطن ينحدر إلى هاوية العتمة والمجهول.
تخطى رّقة مواقيت الرواية، ومتاهة صلاحية اتّخاذ قرار الحرب والسلم، إلى الشّق الإنساني الذي أضاء على المعاناة. فقد اختار موضوع مسرحيته حصيلة حرب هوجاء لم نردها، دارت رحاها على جغرافية معروفة. أمّا مدّتها فقد ضمّنها العنوان وكانت على امتداد ٣٣ يوماً، ولكلّ يوم صلاة شبيهة بصلاة النبي يونان عندما كان في بطن الحوت.
وندخل نصوص المسرحية، الموزّعة على ٤٨ مشهداً، بفصل واحد بطله حرب تمّوز. ويبدأ المُشاهد بالتمزّق، عندما تستحيل كلّ عائلة إلى كتلة غضب مقسومة بين الرحيل والبقاء، كما تتمزّق آلاف التّمنّيات بلمّ الشمل. وتعلو صرخات الاحتجاج على الشّفاه كدمٍ يتدفّق من وريد مقطوع. وتحاول كلّ شخصية من المسرحية الهروب من احتجاجات طفل شاسع الطموح، انتهى طموحه قهراً، إلى تفاصيل حياة مملوءة تشرّداً وتمرّداً. وتمضي بهم الحياة خلال ٣٣ يوماً، وهم كأشباح على المسرح، يلعبون دورهم بأمانة، ثم يختفون من دون أن تقفل الستارة.
من آلاف التساؤلات، ومن طموح تفجّر من الإنسان الّلبناني المظلوم، ومن توق الدول القوية إلى حبّ الحرب والسّيطرة، ومن بقايا الجسور المهدّمة فوق الأنهار والوديان، ومن الحفر المملوءة بالدم المتجمّد الذي سال من ذلك الإنسان منذ أقدم العصور، نشأت هذه المسرحية. وهنا في بلاد القمم المكسوة بالثلوج، وأرض الأرز، وبلاد التبّولة و"الكبّة النيّة"، تلاقى المجد مع هزائم الشعب الصامد مذ حاصر الإسكندر سيدة البحار مدينة صور وحتى يومنا هذا.
هذه هي الأسطورة الّلبنانيّة القديمة المتجدّدة التي كوّنت نواة الوطن. لكنّ الكاتب لم يعمّق أبعادها، ولم يكسب أغوارها الإنسانية هديراً يصم الآذان، بل جعلها في كلّ نفسٍ صدىً لروح الحقيقة. فبهذه البساطة، وبتواضع كاتب مسرحيّ يعي مسؤوليته، وصّف حياة وطن مضطربة مشحونة بالخيبات والانتصارات، فكانت هذه المسرحيّة صورة متوقعة لوطن ولد مع ولادة الشّمس، وشهد اجتياحات وعاصر حروباً ودافع بالأسلوب الذي يتلاءم وامكاناته، وصخور نهر الكلب خير دليل.
أهدتنا الأيام مرّ الحرب الّذي ذاب في قوارير الروح مع الوطنيّة، فأين الصبر الّذي يرتوي عند القرار بالصمود؟ ... إنّه زمن وطن محصور ب ٣٣ يوماً من الحرب وعناقيد الغضب. فهل أدركنا أو قال لنا رّقة أنّه مع كلّ شهقة وزفرة، وعند كلّ استشهاد، تشيخ نبضات قلوبنا، ونتيقّن أنّنا في بداية رحيل لم يتم، وانتظار عودة موهومة: "... أحتاج إلى شهقة/ ليعود الحبّ إلى قلبي/ عودة الروح إلى الميت/ ..أحتاج إلى قلب ميت/ ليبقى بعيدًا عن الألم." (صفحة ٢٨، المشهد الثامن).
لم تذهب كلمات يوسف رّقة هباءً، كرقص الذئاب مع الريح. بل حفظ العهد، لبارقة عشق وطن لاحت في ذلك الظلام الدامس. وترك حواسنا الحائرة أمانة في سطور المسرحيّة، ليرتقي عَلَم الوطن فوق سارية لا تنحني، ويتعالى على قلق المجتمع، وتنفرج أسارير القمر بعد رقص عاصفة: "فلندع كلماتنا ترقص مع هبوب العاصفة أو... فلنصمت إلى الأبد..." (صفحة ٣٦، المشهد ١٤).
ألم تنضج طبخة الشّرق الأوسط الجديد؟ وهل هي بحاجة إلى هذا الكم الهائل من الدماء النازفة، في ساحات الثورات والمعارك؟ ألم يكن الشرق الأوسط القديم أرقى وأجمل؟: "توقفوا... توقفوا... لماذا لا تصدّقون أنّ هذه الألغام تستطيع أن تحوّل الأرض إلى كرة مثقوبة؟ هذا ما يريدونه للشرق الأوسط الجديد..." (صفحة ٨٣، المشهد ٤٢).
يحسّ القارئ بحزن عميق، وهو يقرأ مسرحية قصّة وطن، اختزلها يوسف رّقة ب ٣٣ يوماً. قصة لم تُمثّل، لكنّها جرت على أرض الواقع الأليم، لذا فهي رائعته.