تزامنًا مع نيله وسام الفارس للآداب والفنون من وزارة الثقافة في الجمهوريّة الفرنسيّة واعتباره شخصيّة العام 2023 الثقافيّة وترشيحه لنيل منصب مدير معهد العالم العربي في باريس، رسمت سلسلة أعمال شعريّة ملامح تجربة الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير (1949-...) توّجتها مؤخرًا دار النهضة العربيّة بمختارات بعنوان "خيانة الألم" أعدّها الشاعر والصحافي محمود وهبة تعيدنا إلى القراءة كخاصيّة نقديّة حديثة وتضعنا أمام تساؤلات متعدّدة.
فهل يبحث شوقي عبد الأمير عن الصوت البديل أم صوت يهرب نحوه من الحاضر؟ وكيف يفسّر توظيف الرمز في الشعر؟ وإلى أيّ حدّ باتت العلاقة بين المبدع والجوائز وفقًا لعبد الأمير علاقة مطاردة؟
انطلاقًا من ذلك، كان لصحيفة "النهار" اللبنانيّة حوار مع الشاعر المحتفى به ليأخذ المتلقّي معه نحو عوالمه ورؤيته إلى الفكرة والآخر والعالم...
الجوائز والمبدع
1- في إحدى مقابلاتك بعد نيل وسام الفارس الفرنسي للآداب والفنون اعتبرت أنّ ما يميّز هذه الجائزة أنّها لا تعتمد على ترشح ومراحل وتصفيات، برأيك هل كل التجارب الشعريّة تستحقّ التقدّم نحو الجوائز؟
يجب أن نفرّق بين الجائزة بمفهومها الشائع الآن المقتصر على الشقّ الماليّ واللجان والترشيحات، وبين ما يسمى بالتكريم في فرنسا، وهو مختلف تمامًا كونه ليس جائزة ولا فيه عائد ماديّ، وهو درس لنا جميعًا كون التكريم الحقيقي يحصل بعيدًا من أي تأثير، من ناحية ثانية وزيرة الثقافة الفرنسيّة قالت في رسالة عمّمتها على الصحافيين باللغتين الفرنسيّة والعربيّة أن شوقي عبد الأمير جسر من ربط الثقافتين العربيّة والفرنسيّة، يعني وضعتني في موقف أعمل فيه منذ أربعين عامًا، وبالتالي هم يتابعون ويقرؤون. وهو ثاني تكريم يأتيني من فرنسا بعد جائزة ماكس جاكوب عام 2005، ولم أكرّم عربيًّا حتّى الآن وأكتفي بالقول: "لا تعليق".
الثقافة هي الخندق الأخير بالنسبة إلى العرب و غذاء لكل مرافق الحياة، الثقافة هي دم الحضارة...
2- أيصبح المبدع بعد نيل الجوائز في قلعة المؤسّسين لمراحل كتابيّة جديدة؟ أم يعود نحو ولادته الكتابيّة حيث نقطة التشكّل؟
أفضل ما يفعله المبدع حين ينال الجائزة هو نسيانها. عليه مواصلة عمله بمسؤوليّة أكبر كونهم وضعوا على عاتقه التكريم الذي سيكون له ارتداده وفقًا لعمله...
3- بعد نيل الجوائز، هل يعتقد شوقي عبد الأمير أن الجائزة عمومًا هاجس يطارد المبدع؟
إذا فكّر المبدع بالجائزة فهو ليس مبدعًا، بل مجرّد واقف في الطابور أمام كشك ينتظر دوره لينال مكافأته. لن يظهر عليّ أي ملمح جديد بعد الجائزة، والوسام الذي سيضع على صدري ليلة الاحتفال سأعمل على نسيانه والعمل دائمًا من أجل الجديد.
عن الحواريّة والسرد والإيقاع
1- نلاحظ في قصائدك تكرارًا لفعل القول، كيف تختزل هذا التشكّل اللغوي اللاواعي؟
الشاعر يتحقّق في اللغة، الشاعر الذي لا يجيد لغته كالرسّام الذي لا يملك ألوانه. بدأت تجربتي كشاعر عموديّ، قبل خمسين عامًا فزتُ بجائزة الآداب الأولى عن قصيدة عموديّة كتبتها. في مجموعتي "حديث مغني الجزيرة العربيّة" حذفت كل قصائدي العموديّة ومن ثمّ انتقلت إلى قصيدة النثر، والسبب هو تطوّر كتابتي. صرت أنمو باتجاه الاختزال والومضة الشعريّة، وفي مجموعتي "حديث النهر " ذهبت إلى أقصى الغنائيّة لأنتقل بعدها في مجموعة "أبابيل" إلى تجربة مضادة فألغيت الاستعارات والصفات فقال أحد النقّاد الفرنسيين عن تجربة أبابيل إنها وجبة باردة، لأنّي قشّرت اللغة. نموّي الشعري دفعني نحو هذا الخيار.
القصيدة العربيّة الحديثة، لا ماضي لها في الشعر العربي، آباؤها شعراء العالم: بودلير، رامبو، إليوت وغيرهم، لا المتنبّي وامرؤ القيس، وهذا نمو حضاريّ. انتهينا من عصر الخيمة العربيّة التي تمثل الشعر نحن في نفق الآيفون.
2- "سيّدي القرمطيّ/أتيتُ إلى دكّة في تخوم الصحارى/ وكانت بقايا بلاد ومجزرةً" هذا التوليف الفنيّ للتاريخ بطريقة رمزيّة وفنيّة هو إعادة لفهم التاريخ أو تمهيد لتبنّي موقف فكريّ؟
لا أؤمن بالتاريخ الّا كمعطى فهو جهد فردي معتمد على سلطة. لا موضوعيّة في كتابة التاريخ. أخذت على عاتقي كتابة شخصيّة القرمطيّ كما أراها... وقد كتبت نصًّا يشير الى مفهومي العميق للتاريخ من ثلاثة أسطر: "الماضي هو أوّل دمية أهداها هيرودوت /إلى طفولة البشريّة". فالماضي لعبة بين يدي الجميع، المفردة في القصيدة حياة مهما كان زمنها.
اليوم نكتب الشعر، بعد خمس آلاف سنة من ملحمة جلجامش و ما كتبه السومريون. ويجب على الشاعر كي يجدّد أن يتجاوزهما.
3- نلاحظ أن ضمير المتكلّم يطغى على معظم النصوص الشعريّة، هل يفضّل شوقي عبد الأمير الغنائيّة على التواري خلف المعنى والفكر العاقل؟
لا أدري، لستُ متأكّدًا كوني كتبت نصوصًا كثيرة يغيب فيها ضمير الأنا، وهذا خيار لاواعٍ وهو خيار شعريّ، وهناك فرق بين خيار الوعي المباشر والتقريري والخيار الشعريّ الذي يختارك.
شوقي عبد الأمير.
4- نجد تركيزًا على التكرار والتوازن بين السطور الشعريّة، إلى أي حدّ يخدم الشكل والموسيقى الشاعر في رسم عمليّة التلقّي الواضحة؟
لن أدخل في تفاصيل التكرار وسواها، لكن أستطيع القول إن الشكل والمضمون لا انفصال بينهما، كالجسد والروح وأي فصل بينهما ينتج مادّة سطحيّة. أقول في مجموعة أبابيل: "للأبديّة طينها/ولي مسماري"، هذه السطور لا أستطيع كتابتها بغير شكلها... وغايتي أداء الدلالة الأكثر اختزالًا.
5- "خرج العربيّ إلى القبر/ عاقرة ولدت جرحًا..." الجمع بين فعل ماضٍ يثير العاطفة التي تمثل أحد عناصر العمل الأدبيّ وبين الإيجاز أهو نتيجة شرارة انفعاليّة أم محاولة دائمة للثورة على الأنساق الشعريّة الموروثة؟
الجواب لدى القارئ والناقد، لعلّه إشارة إلى الماضي الذي اعتقل الحاضر. ذكّرتني بحوار مع صموئيل بيكيت حين سألته لماذا تعتبر المسرح عبثًا فنظر إلي بعينين زرقاوين قاسيتين كالمسامير قائلاً: "من قال لك إني أقول إن هذا المسرح هو مسرح عبث، هذا ما يقوله الناس ليس ما أقوله أنا ،أنا أنقل مشهداً من مشاهد الحياة،أنا موجود في قلب النص" والقارئ حرّ في حكمه والنصّ أمامه مفتوح.
شهادة التكريم من قبل وزيرة الثقافة الفرنسيّة راما عبد الملك يقدّمها السفير العراقي في باريس د.وديع بتي لشوقي عبد الأمير.
الرمز والتكثيف
1- نلاحظ في "خيانة الألم" تواتر الحجر كرمز ولفظة تنسحب على مجمل النصوص، هل هو ارتكاب لفظيّ مقصود أم محاولة لتشكيل هويّة قصديّة واحدة؟
كتبتُ مجموعة شعريّة بعنوان "حجر ما بعد الطوفان" حوالي 70 صفحة أهديتها إلى #محمود درويش، وهو قراءة في الحجر انطلاقًا من انتفاضة الحجر الفلسطينيّة الأولى عام 1988. كانت أول مرّة فيها أدخل في فلسفة الحجر كمفردة... أكره المفردة الفضفاضة، فكلّما قلّت، زادت قوّة النّص. أميل إلى تكثيف اللغة.
والقارئ نصف المؤلّف، يقول كانط: "لا نرى الأشياء كما هي بل كما نحن"، فيجب أن نترك مساحة هائلة للقارئ ليكره ويحب ويعبّر.
2- في النصّ الثاني المهدى إلى محمود درويش بدأ الكلام بـ"صبرا" المخيّم الذي نزف نيابة عن كلّ الشهداء المقبلين، هل هي إشارة إلى حصر محمود درويش في وعي شوقي عبد الأمير بشاعر أرض وتراجيديا وقضيّة ؟
الحدث دفعني الى إهداء المجموعة إلى محمود درويش الذي كنت أتحدّث معه يوميًّا ويخبرني عن تفاصيل الانتفاضة، وكلّ قصيدة أهديها لشاعر صديق لي مرتبطة بحدث.
وهذا هاجس اللحظة وليس قرارًا.
3- كيف يرى صاحب "سنبلة الحقول الوثنيّة" طبيعة لغته الشعريّة اليوم المتأرجحة بين المنظومة والمنثورة...الموجزة والمفصّلة بعد عقود من نزيفه الشعريّ؟
لغتي الشعريّة هي أنا في مرايا القاموس، هي كياني. لهذا لا أضيف ولا أفتعل بها، ودانتي يقول: "اللغة هي الإشكاليّة الأكبر في أعلى نقطة من الكائن" قد تسيطر عليك وقد تسيطر عليها، يقول كاتب ياسين لمن لامه لأنه كتب بالفرنسيّة رغم أنّه يحاربها: "اللغة هي غنيمة حرب" وإنّك تبحث عن نفسك في اللغة، وموضوع اللغة بالنسبة إلي معقّد، لهذا لم أكتب شعرًا بالفرنسيّة رغم أني أحاضر بها. فاللغة الحقيقيّة هي التي ولدت فيها لا العكس.
4- ختامًا، أين يرى شوقي عبد الأمير الجسد في عالم التعبير والكتابة، تحت سقف المقايضة العاطفيّة أم في معجم الترميز والتأويل؟
الجسد هو الختم بالأحمر على الوجود وعلى الكائن الهلامي. هو بصمتك كفرد، ولا فرق بين الجسد والروح، وعلينا أن ننتبه الى كل مسامات الجسد، في أفضل حالاته وفي أسوأ حالاته. لتجعل منه شروقًا وهذه مسيرة الحياة أن تشرق بجسدك.
أشكرك عزيزي نبيل وأهنّئك وسعيد جدًّا بهذا الحوار لأني قلتُ فيه ما لم أقله في سواه وهذا بسببك، أنت يا نبيل الذي ارتكبت هذه المقابلة.