د. منى رسلان
يبدوُ للمُتبحّرِ في قراءةِ مُجرياتِ الأحداثِ العالميّةِ المُتسارعة عُنفياً وعسكرياً...، ومنها الفعاليات الثقافيّة، الرياضيّة، السياسيّة، الاقتصاديّة والماليّة، والتكنولوجيَّة-السيبرانيَة، أنَّ هناك مساراً مُمنهجاً لتقويضِ أُسس الكيان الأُسري وتدمير القيمِ الاجتماعيّةِ والأخلاقيّةِ والدينيّة والبُنى القانونيّةِ في لبنان، وفي بعضٍ من دُول العالمِ العربي والإسلامي، والعالم.
إنَّما يجري كلُّ هذا وفقَ خطط مدروسة بعنايةٍ، تطالُ شؤون الحياة العامة والخاصة في الدول على تنوّعِ مشاربها، تتلطّى تحت عباءةِ "الحرّيّة الشخصيّة" و"مواكبة التطوّر"، الترويج للانحلال الأخلاقيِّ والتفلُّتِ المُجتمعي، وتالياً تدمير الركائز الوطنيّة. فتدميرُ البُنيةِ الأُسريَّةِ إنّما ينسحبُ على التدميرِ المُمنهج لفكِّ العُرى الوثقى لارتباطِ المواطن بالدولةِ والوطن؛ مظاهر رفض الزواج وما يستتبعُ ذلك من نبذ لكلِّ القيمةِ الّتي يمنحُها الزواجُ لكُلٍّ من المرأة والرّجلِ باتّحادهما والخبرة الإنسانيّةِ في صيغِ العيشِ وتناميها؛ والإعراضِ حتّى عن تحمّل المسؤوليّةِ التربويّةِ والتعاضُدِ الأُسري، والدفع باتّجاه الطلاق كحلٍّ نهائي تهرُّباً من مواجهة الحياة، بدل مُعالجة المُشكلات الأُسريّة بوعي ورحمة إنسانيّتين وتفهُّمٍ حضاريٍّ؛ هذا إلى جانبِ "تيئيس" الإنسانِ و"تغريبهِ" عن واقعهِ المَعيشِ الحقيقيّ، وضعضعةِ ارتباطِهِ بوطنِهِ وتقويضِ مؤسساتِ الدولة من الثقافيّةِ والتربويّةِ والاجتماعيّةِ إلى الأمنيّةِ والدينيّةِ وسواها، والتغريرِ بالمواطنين وإغراقهم في أتونِ الانحلال الكُلّي تحت شعاراتٍ واهية (حريّة شخصيّة / تطوّر / انفتاح / مواكبة الرجعيّة / التخلّف / الدفع باتّجاه المِثليّة والمتحوّلين جنسيّاً / رفض الأمومة والرضاعة / رفض الزواج / الاجهاض!/ "تأجير" الأرحام! / الاستنساخ البشري! / و"الرفض").
تُضافُ إلى ما تقدّم، الانتفاضةُ على حُكّام البلدان العربيّةِ تحت شعارات "الثورة" لإسقاط النُظمِ القانونيّةِ وزعزعةِ الأمن والاستقرار، والسيطرة على البُلدانِ ماليّاً واقتصاديّاً وتربويّاً وثقافيّاً وأمنيّاً وسيبرانيّاً، بوضعها تحت المجهر الدوليّ، وإحكامِ قبضة اليدِ على أصولِ الدولةِ من نفط وغاز وليثيوم ومعادن ثمينة، وبيع احتياطي الذهب، كذلك السيطرة على طُرق الترانزيت البريّة والممرات المائيّة، وعلى الفعاليات الاقتصاديّة وحركة الاستيرادِ والتصديرِ في بعض الدول، بفرضِ أجندات مُلتبسة، من خلالِ تغييبِ فاعليّةِ الصيغِ القانونيّةِ وتسيير حُكمِ القانون الّذي يحتكم إليه الناسُ والدولُ في ما بينهم؛ فضلاً عن الانتفاضِ ضدّ النُظُمِ القيميّةِ المُجتمعيّةِ من قبل الجيل الشابّ وبثّ الحقدِ والفتنة والضغينة ترويجاً واستثماراً. فكان لا بُدّ من إعادة "جوجلة" وقراءةٍ موضوعيّةٍ وموضوعاتيَّةٍ لواقع المجتمع اللبناني بأطيافه كافة (مثلاً)، والمخاطر المُحدِقة بهِ (الجندريّة المُبطنة؛ الزواج المِثلي؛ انحلال نُظم القيم المجتمعيّة؛ انحلال الأخلاقيّاتِ التي تحكم تصرّفاتِ وتعاملاتِ الناس في ما بينهم؛ دور وسائلِ الإعلامِ الترويجي والأفلام ترويجاً لبعض الآفات عن قصد أو غير قصد، وعلى من تقع المسؤوليّة؟).
وما دورُ الوزاراتِ المعنيّةِ (التربية، الثقافة، الداخليّة، الشؤون الاجتماعيّة، الشباب والرياضة، اللجان النيابيّة والتربويّة والطفل والأُم، المؤسسات الأمنيّة وبرامجها التوعويّة والإرشاديّة، مُديريات المجالسِ المذهبيّة، الجمعيات النسائيَّة والأهلية والكشفيّة، الأحزاب الوطنيَّة أو المؤسسات العلميَّة والبحثيّة، المؤسسات الرياضيّة والأندية، الجامعة اللبنانيّة والجامعات كافة...)؟!
علماً بأنَّ آفة المُخدّرات تُصيبُ الأُسس الكيانيّة، وتطالُ أفراد المُجتمع الميسور مادياً، كما تستهدفُ الفئات الفقيرة، أو التي لم تنل نصيباً من العِلم والمعرفة، أو تلك التي تختبر أعتى أشكالِ الإهمال من قِبل الدولِ والمُنظَّمات المحليّةِ أو الأجنبيّةِ، إذ لا إنماء ولا نماء فيها، حيث تنتشرُ الرذيلةُ بدل إحلالِ الفضائل والشمائلِ والعمل المُنتج؛ إلى جانبِ تشييء العقلِ البشري، وتغريبه عن إنسانيّتهِ، والإعراض عن تفعيلِ التنوّع والغنى والفردانيّة الشخصيّة المُتفاعلة إيجاباً مع محيطها.
بيد أنّه لا مندوحةَ من دراسة هذه المُعطيات والإشكاليات بواقعيّةٍ ورؤية استراتيجيّةِ تشاركيّةٍ عربيَّة-عربيّة؛ والتحدّيات الّتي يفرضُها العالمُ "المُعولم"، والآخر "الهميوني"، وذاك "المؤدلج"، على طبيعةِ العيش.
إذ لا يمكننا التغافل إطلاقاً عن راهنيّةِ واقع لبنان الاجتماعيّ، الثقافيّ، التربويّ، الفنيّ، والدينيّ المتأزّم، من جرّاء الأزماتِ الاقتصاديّةِ والسياسات الماليّة "الفجّة"، وتلك الصحيّة المتتاليةِ، إلى جانبِ مسألة النزوحِ، الحروب المُتعاقبة، الهجرة القسريّة، أو غير الشرعيّة، الترويج للمِثليّة والتدخُّل في الميول الجنسيّة للأفراد.
لذا يستقرئ العلّامة الدكتور وجيه فانوس في هذا المقام، المخاطر، مُحذّراً مِن تلك الحركات والمُنظماتِ أو تلك المجموعات، التي تركب موجة "التغيير الهدّام"، بأهدافٍ مُلتبسةٍ وتسعى وفقاً لأجنداتها داخليّاً-خارجيّاً إلى تقويض هيكليّة الدولِ والمُجتمعات والأفراد، فيقول:
"ما الذي يُؤملُ من مجموعةٍ اتَّخذت من الثَّورة الشَّعبيَّة العارمة، اسماً وعنواناً وصفةً، أن تبدأ فاعليَّة وجودِها النِّيابيِّ بالتَّركيز على حقوقٍ تراها، لأهلِ اللواط ونساء السُّحاق وجماعات التَّداخل في الميول الجنسيَّة، همّاً أساساً لنشاطاتها الملحَّة؛ واضعةً هموم فقدانِ الرَّغيف والماءِ والكهرباءِ والاستشفاء وأموال المودعين والمالِ العام المنهوب، في صفٍّ لاحقٍ مِن مجالات الاهتمام؟". (فانوس، وجيه. مقال: وطن اللارغيف، حدّق، أتذكر من أنا؟!!" جريدة اللواء اللبنانية - 30 حزيران / يوليو 2022).
والسؤال المقصود ههنا، هل الطبيعة الإنسانيَّة للفرد، ستُصبح غير ثابتة، وستتغيّر وفقاً لما سيُحدثُهُ التدخُّلُ في الميولِ الجنسيّة، ولما لمُخلّفات المخدرات من تأثيرات سلبية، أحياناً قاتلة - على تنوّع مجالاتِ استخداماتها ومن دون ضوابط أحياناً - في المُنبِّهات والمشروبات أو الانجراف في تناولِ بعض العقاقير الطبية، وما يتمظهرُ عنها من ظواهر كـ"الشذوذ"، "الانتحار"، "القتل" أو "اضطرابات سلوكيّة-نفسية-عُنفيّة"!؛ أو كما هي الحال في التجارب النوويَّة والجرثوميَّة وسواها الكثير في هذا الزمن!؟
هذا فضلاً عن انعكاسِ هذا التطوّر التكنولوجيّ الهائل ومخاطره الجمّة على المستوياتِ الأخلاقيّةِ والتربويّةِ والاجتماعيّة والأمنيّةِ.... إن كان في لبنان أو البلدان قاطبةً.
يأتي هذا مصحوباً بإرهابٍ نووي، والتقدّم المُتسارع جداً في تكنولوجيا شيفرةِ الحمضِ النووي DNA، وفيروسات معدّلة وراثياً، وتلك المميتة منها، وانفلات الأجهزة التكنولوجيَّة والهواتف الذكيّة وهي صنيعة الإنسان، وتحدّيات الذكاء الاصطناعيِّ والروبوتات "المؤنسنة" - والالتباس في كيفيةِ صياغةِ ضوابط وقوانين تكنو-أخلاقيّة للاحتكام إليها!؟ إلى التعديلِ في الهندسة الوراثيّة التي تغيّر في طبيعة الذّات البشريّة.
يرد في كتاب "بناء الكون ومصير الإنسان"، وفقاً لوجهة نظر الباحث الدكتور هشام طالب، أنّ التعديل الوراثي على الحيوان، ينسحبُ على الإنسانِ أيضاً، والعلماءُ يعملون على استنساخِ المخلوقاتِ الحيَّة وتعديلها وراثياً. فالهندسةُ الوراثيَّةُ قد تُحدث تغييراً جذرياً في الأحياءِ، بحيث يمكن التحكّم فيها عن طريقِ إحلال خلايا سيليكونيَّةٍ "مرتبطةٍ بالعقلِ الإلكتروني"، محلّ الخلايا النوويَّة... وإشكاليّاته الجمّة!!
بناءً على ذلك، ننطلقُ في المُعالجةِ من صونِ المُشترك الإنسانيّ لمناصرة الأسرة والمُجتمع والأوطان العربيّة، والدعوة موصولة لعقدِ مؤتمر أكاديميّ في العلومِ الإنسانيّةِ والاجتماعيّةِ والعلوم الطبيّة، وإطلاقِ ورش عمل وحملات توعويّةٍ، للاطلاع على آفةِ "الشذوذ"، ومخاطر التكنولوجيا وتحدّيات الأمن السيبراني، لبنانيّاً وعربيّاً، ليكون باكورةَ نشاط إنسانيٍّ جامع ومُثمر بين الدول، فيُعمِّم تجاربه في المُستقبلِ القريبِ والقريب جداً، مُشكِّلاً نواةً عربيّة متعاونة ومُتعاضدة للمُحافظة على أصالتنا العربيّة، وعلى أُسرنا وقيمها الفاعلة، واحتضان الطفولة، بالحفاظ على جوهر تنوّع مُجتمعاتنا بمشاربها وأطيافها، كغنى معرفيّ يترافقُ تطوّراً وانفتاحاً، ويصون الفرد والأُسرة والمُجتمع اللبناني والعربي والإسلامي، بعيداً عن الانحرافِ والانجرار وراء شعارات وتصاوير وألوان "واهية"، يُراد منها "باطل"، والتدخّل في خلقِ الله (عزّ وجل)، والتغيير في الوظائف الهرمونيّة والخصائصِ الكروموسوميّة، وربّما إعادة تركيب مخلوقاتٍ "هجينة"، تُحاكي التخريب الجيني الذي تدعمُهُ بعض الدول، وتنتهجُهُ بعض المُختبرات والأنظمة بما يُشاكل "الإرهاب البيولوجي" المُتمثِّل بالإطلاق المُتعمّد للبكتيريا أو المواد السمية أو الفيروسات وغيرها من المواد الضارة الأخرى مُسبِّبةً الأمراض أو الوفاة؛ إذ تتواطأ مُنظماتٌ ودول مع تجاربها اللاأخلاقيّة واللادينية.. و"الشذوذ" - و"النمذجة" الواحدة والأمراض النفسيّة (اللواط والسحاق / التماثل بالحيوانات وبعناصر من الطبيعة / السلوكيات الانفعاليّة، الإجراميّة...) - إحداها، ولا يتماشى مع نُظمِ الطبيعة.
ممّا لا شكَّ فيه، أنّ التكنولوجيا الحيويَّة في تطوّرٍ "سريع"، وتالياً سوف تتعاظمُ خطورة الإرهاب بأشكالِهِ المُتعدّدة، الأمر الّذي يدعو الدول والدوائر البحثيّة والتربويّة، إلى مُناهضةِ "الشذوذ" و"تهديم" القيم، من خلالِ إعادة إدراجِ مادة الفلسفة في العلومِ المعرفيّة، وفي المناهجِ التربويّةِ والأكاديميّةِ والمعاهدِ الفنّيّةِ؛ وفي برامجِ وأنشطةِ المُنظّماتِ الكشفيّةِ حتّى، إلى جانب المناقبِ الدينيَّةِ والمُجتمعيّةِ "المُعصرنة"، وبثّ الخصالِ والأخلاقِ الحميدة، وليكن وعي حريَّةِ الحضورِ الإنسانيِّ وتحقيق طموحاتِهِ - من أهمِّ وسائل تفرُّدِ الشخصيَّة العربيّة - إلى جانبِ تدعيمِ روحيّةِ المواطنة، تفعيلِ دورِ الفلاسفةِ وعلماء النّفسِ والاجتماعِ والتربيةِ برؤى مُتطوِّرة تُحاكي ما يُعرفُ اليوم بـ"الاقتصادِ المعرفي"... والنزعة إلى إدراكِ جُزءٍ من صميمِ الوجودِ الإنسانيّ.
أستاذة النقد الأدبي الحديث والمنهجية في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة - في الجامعة اللبنانيّة