يوسف طراد
تقلّبت مواجع الروح خلال الأيام السجينة في قرية "كفر صاف"، وتركت دبابيس وخز الضمير على المضاجع. وبانت حقيقة رجال الدين الذّين يتّبعون التقليد العقيم، ولا يتبعون الكتاب إلّا لتبرير خطيئتهم، في رواية "الداشرة" للكاتبة هبة قطيش.
كاتبة استدرجت القارئ من أوّل صفحة في الرواية إلى عِقَدٍ تراكمت من دون فسحة لومضة عشق وخلاص، فوق ذاك الظلام الروحانيّ الدامس، المقيّد بالتقاليد البائدة.
يحكي هذا الكتاب ببساطة قصّة موت مجتمع، مع موت مريم المأساوي ذبحاً على عتبة الرواية. في سطور تحتقر أتقياء العهر الأخلاقي، من دون منح الضحية الجائعة إلى المعرفة كسرة حياة.
لم تبقِ الكاتبة ذات "آدم" أحد أبطال الرواية منغرسة عند حدود التقاليد والأعراف المجتمعيّة البالية، حيث إن الأصوليّة فكرٌ غابرٌ، وبدعة قديمة غير مستحدثة، ونطاقٌ مميّزٌ لأعمال الفكر الجاهل في حيثيّات الحياة الاجتماعيّة الآنيّة ومضامينها، وخاصة في الأرياف، بل أطلقتها لتساؤلات وتجاذبات، منبعها رفقة السوء - حسب رأي المجتمع - متمثلّة بالانفتاح على الفكر الشيوعيّ، والتقاليد التي يفرضها التدّين بعيداً عن الدين.
قَتَلَ إمام القرية ابنته مريم مرّتين، المرّة الأولى عندما اغتصبها، والمرّة الثانية عندما ذبحها بحدّ السّكين؛ بريئة لم تعترض أو تقاوم قراراً صادراً عن إمامٍ أطلق العنان لشهوته، وانصاعت ابنته لحكمه المبرم باسم الدين، وهو ليس له من الدين إلّا الهوان المجبول بالدماء البريئة، تحضرنا هنا آية من الكتاب المقدّس العهد القديم: "... كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ." (إش 53: 7).
الحبّ المستحيل سيطر على بعضٍ من أحداث الرواية، فقد كان مقيّداً بحبّ تلميذة جميلة وذكيّة، ولم تفكَّ السّكين، التي جالت على رقبتها، هذا القيد؛ لكنّ الحقيقة حرّرت المحبّ من رواسب قاتلةٍ للروح. وكان وصف للحظات حبٍّ صادق في العديد من سطور الرواية، بين "سارة" والأستاذ "رامي"، الذّي تحرّر من قيد الماضي.
وأنت تقرأ في نهايات الرواية، تجد سَفَر "آدم" الشّاب المنفتح، وعودة الشيخ "سعيد"، الذّي يشبه أباه الشيخ "أبو صالح"، الذّي توفي بسكتة قلبية، عندما بانت حقيقة اغتصابه لابنته، حالة مشابهة لما يحدث في هذا الزمان والمكان: "يا سبحان الله عندما تنظر إليه ستجده يشبه والده، الشّيخ (أبو صالح) قلباً وقالباً"، (صفحة 230).
على مدى دهور، كفّر رجال الدين العلماء والفلاسفة والكتّاب وكلّ رجل دين لا يخضع لرغبة الحكّام، فكيف إذا كان رجال الدين هم من يسيطر على قرار الدول؟ فقد وصفت الكاتبة أفعال إمام يتبع التقليد الموضوع من قبل المجتمع الديني، والذي يرضي بتصرفاته رغبة الحكّام في التفرقة بين شرائح المجتمع، وليس عدل الكتاب. فهل المحاولات الحثيثة لتغييب فكر الشّيخ ياسر عودة، الرجل الراديكاليّ المنفتح، والمتفلّت من التقليد، والذي يحاول تحييد رقبة طائفته من تحت حدِّ سكّين السياسة، واستبداله برجال دين آخرين، في محاولة لفرض القرار الخارجيّ على الداخل المعذّب، يندرج في هذا الإطار؟
إن الرواية قد كُتبت قبل منع فيلم "باربي" في لبنان. وقد سُمح عرضه في عدّة دول عربيّة. فهل ستُحظر هذه الرواية، التّي وصفت الشّهوة الجارفة لإحدى بطلاتها "جميلة"، وقد اجتاحت المثليّة تخيّلاتها، وسكنت جسدها، واستمتعت سراً مع كلّ حاملٍ أو فتاة كشفت على عذريتها، عندما كانت تمارس وظيفتها كقابلة؟ فشذوذ جميلة حقيقة دامغة موجودة في المجتمعات منذ القدم، لكن هل يمكن للسلطات أن تطبق "المادة 534" من قانون العقوبات التي تنصّ على أن "كلّ مجامعة على خلاف الطبيعة يعاقب عليها بالحبس سنة واحدة"، أو أنّها مختصّة بالمنع فقط؟
هل ستنجح هذه الرواية، لأنّها تضمّنت الجنس والجريمة وغسل الشّرف بالدماء، بأسلوب متجدّد، أو لأنّها عرضت الواقع بكلّ مآسيه؟ فكلّ ما فيها صادر من ردّة واقعيّة، اجتاحت مجتمعاتنا العربيّة وما زالت حلم شبابنا؛ ردّة تؤكّد أنّ الجيل الجديد قد سئم القيود الطائفيّة والاجتماعيّة، والتعقيد في العلاقات وابتذالها، وتدمير القيم، وأصبح بشوق إلى التمرّد وذرف دموع الندم؛ فباستدرار الدمع بدأت الرواية، وبالتحرر انتهت.