شربل شربل
عرفت الدكتور فلاح أبو جودة على صفحات الفيسبوك، فلفتني تناولُه موضوعات اجتماعيّة شيّقة، يختارها ببراعة القنّاص الماهر ذي العين اليقظة والأذن الواعية، لالتقاط أصدق المشاهدات، وأدقّ التفاصيل، وأطرف ما يقال.
ولفتني أسلوبه في صياغة هذه الموضوعات المستلّة من الواقع الاجتماعيّ، بعد تخميرها في مختبر الذات الموسوعيّة الثقافية، الحاضرة النكتة، التي لا تبخل
بالسخرية حيث تدعو الحاجة، ولو من الذات…
وكنت قد استمتعت بقراءة كتابه "على سيرة النوم" كلمةً كلمة، وقد استوفى فيه مختلف وجهات النظر إلى موضوعه، عربيّةً وأجنبيّة، وأغناه بالاستشهادات، نثريّةً وشعريّة، وجمّله بالتعليقات، رشيقةً وشيّقة. ولم يتورّع عن نقل طقوس النوم التي تُمارس في عائلته، وتمتدّ بالوراثة جيلًا بعد جيل؛ وبذلك مزج الذاتيّ بالموضوعيّ، ونجح في إخراج كتاب مفيد ومسلٍّ، وعلى درجة عالية من التشويق الذي يطبع أسلوبه.
وقد أنهيت للتوِّ قراءة كتابه الآخر "طمّنونا عنكم - مجموعة مقالات" من الدفّة إلى الدفّة، وبالتسلسل، كي لا تفوتني حكاية، أو معلومة طريفة، أو نكتة، أو قَفْشَةٌ من قفشات الدكتور فلاح، وما أكثرها!
قد يكون من باب التوسّع في التعريف تسمية محتوى هذا الكتاب مجموعة مقالات، وهو في الحقيقة مجموعة حكايات مشوّقة، أو قلْ مجموعة مقالات سرديّة حكائيّة، تستغرق في قراءتها مهما كان تصنيفها الأكاديميّ.
وهو ليس سيرة ذاتيّة بالمعنى الحصريّ للسيرة الذاتيّة، وإن نقل الكثير من المشاهد واللقطات من مجريات حياة الكاتب ويوميّاته.
تتوزّع صفحات الكتاب المئتان والعشرون على قرابة مئة نصّ. لكلّ نصّ نكهته المختلفة، على أنّ اللطافة، وسلاسة التعبير، وسلامة اللغة العربيّة التي أخذها خصوصاً عن المعلّم ميشال شلّيطا الذي يكنّ له كلّ احترام وتقدير، وسرعة البديهة، والواقعيّة، والروح النقديّة، والطرافة، واللون المحلّي… تشكّل سداها ولحمتها.
و"على سيرة اللون المحلّيّ" فكثيراً ما يدور الكلام حول عائلة الكاتب، من الأب والأمّ إلى العمّين ميشال وجهاد، وأبناء الزلقا وبسكنتا،وانطلياس، وخصوصًا آل الرحباني الذين أكثر من الرجوع إلى أعمالهم والاستشهاد بها، وعن زبائنه والطُرف التي كانت تحصل في عيادته…
ومن اللون المحلّيّ ما ذكره عن تأثير الفكر القوميّ السوريّ في بيئته؛ ففي النصّ "نجمة الهلال" (ص 85)، يقول: لم تكن جزيرة قبرص في خيالنا سوى
نجمة، من كثرة ما سمعنا في حياتنا عن الهلال الخصيب ونجمته. وفي الصفحة 43 يقول: تعرف الكاتب القوميّ، مثلًا عن بُعد كيلومتر، بالأخصّ حين يبدأ باستعمال مصطلحات زعيمه، گالنهضة، والأمّة، والنصر، ووقفة العزّ…وحين يريد تهنئتك بعيد ميلادك يدعو لك متمنّيًا أن "تعيّد بالعزّ"•
وفي الصفحة 101 يقول: وفي سياستنا المحلّيّة قيل: لا تجادل "عوني" ولا تجادل "قومي" لشدّة تعلّقهما بأفكارهما؛ والأصعب مجادلة "العومي" أي القوميّ
الذي صار عونيًّا.
ومن أطرف ما رواه ما جاء في النصّ الأوّل، بعد التمهيد والإهداء، وعنوانه "أسامينا"• فقد تحدّث عن معاناته مع اسمه فلاحْ وقد أُطلق عليه تيمّنًا بأحد أنسبائه "مفلح"؛ وبما أنّ هذا الاسم قليل الانتشار، فقد تسبّب له بالكثير من الإشكالات، ما جعله يعدّه في أخطاء والده القليلة.
يقول: عانيت ما عانيته من غرابة إسمي فمنهم من
ناداني صلاح ومنهم من ناداني فلّاح، مع شدّ اللام، ومنهم فالح، ونجاح، وكفاح…
ويوم عرسي تذاكى صاحب الباتيسري وكتب على الغاتو : "مبروك لصلاح ويولا". وقد جاءنا ضاحكاً حاملاً الغاتو، وقال لي: تصوّر، معلّم الغاتو افتكر إسمك فلاح. آخر
لحظة صلّحتلّو ياها وكتبنا صلاح". فقلت له: الله لا يعطيك العافية.
وقد ذكّرتني هذه القصّة بما رواه مرّةً الصحافيّ المرحوم راجح خوري. قال: قدّمت نفسي لأحد الزملاء المصريين فاستغرب الاسم وقال: راجح؟ دا إسم وللا شْتيمة؟ وكان ذلك قبل انتشار الاسم راجح الذي أطلقه الأخوان رحباني على جوزف عازار في "بيّاع الخواتم"•
ومن المقالات التي أتوقّف عندها المقالة "أمّي الحنون" (ص 87) ففيها أجاب عن السؤال: لماذا فرنسا هي أمّي الحنون؟ فعدّد جملة أسباب، أهمّها أنّه درس في
مؤسّسات تعليميّة فرنسيّة، وذهب للاختصاص في فرنسا حيث استفاد من الإقامة المجّانيّة، بسبب الحرب التي كانت دائرة عندنا، ولأنّ الفرنسيّين تركوا في بلادنا مؤسّسات تربويّة واستشفائيّة، وطرقات وجسوراً وقوانين… ولأنّه كلّما قرأ مارسيل بانيول يتذكّر حكايات يوسف حبشي الأشقر ويتعجّب كيف أنّ حكايات أهل مرسيليا تشبه حكايات أهل جبل لبنان… وهو في كلّ ذلك لا يرى سوى نصف الكوب الملآن.
وبما أنّني قرأت كتابه بعد أن اتّضحت نوايا الفرنسيّين، والأوروبيّين عموماً، بخصوص إبقاء النازحين السوريّين عندنا، والسعي مع الأمم المتّحدة إلى توطينهم هنا، خوفاً من ذهابهم إلى أوروبا، فقد رأيت من الواقعيّ والضروريّ أن نرى النصف الفارغ من الكوب؛ فالفرنسيّون بإقرار العارفين، يسعون وراء مصالحهم الأمنيّة والاجتماعيّة، كما يسعون لتحقيق مصالح شركة توتال في استخراج
النفط، ويحاولون تسويق مخطّطاتهم، وليذهب اللبنانيّون والمبادئ إلى الجحيم!
هذا إذا ضربنا صفحاً عن محاولتهم نقل الموارنة، في القرن التاسع عشر، إلى الجزائر، كي يزرعوا التوت ويربّوا دود القزّ، خدمة للمصانع الفرنسيّة، والسلام.
" طمّنونا عنكم" كتاب جدير بالقراءة.
سلم قلمك دكتور فلاح، وإلى مزيد من الكتب غير المتجهّمة، وكلّي ثقة بأنّك ستحسن اختيار "أسمائها" كما أحسنت اختيار " على سيرةالنوم" و "طمّنونا عنكم".