بقلم الدكتور إبراهيم حلواني - أستاذ جامعي وباحث وناقد
الرسم مثلُ الشعرِ والقصة والعزف والرقص، لا بدّ له من أن يحمل موضوعًا أو فكرة، ولا بدّ له من أن يكون مُتقنًا ويعكس خبرة، ولا بد له من أن يكون جميلًا. فإذا جاء إبداعًا من خبيرٍ عظُمت قيمتُه، وإذا كثُرت معانيه على اختصارِ جُمَلهِ شدّ الإعجابَ شدًّا، وإذا حمل فوق ذلك ابتكارًا وجديدًا دخل في النفيس الغالي.
عن الرسم التجريدي
الرسمُ التجريدي تعبيرٌ بصريٌّ يقوم على الشكل واللون والخطوط، ويأتي بتراكيبَ تكاد تكون مستقلّة عن المظاهر المعتادة.
في القرون الوسطى وحتى نهاية القرن التاسع عشر، أي حتى قرنين مَضَيا، كان الرسمُ في أوروبا مأسورًا بالواقع المنظور والحرصِ على التقليد الدقيق للمظاهر كما جاءت بها الطبيعة. وكما الحال في كلّ الأعمال الفكرية والفنيّة، عندما ينضج نتاجٌ إنسانيٌّ ما ويعتاده الناس، يبدأ العقلُ يتفتقُ عن المتقدّم والغريب واللامُتوقّع، ويبدأ المؤلّفون بإنتاج أعمال فيها جديد لافتٌ، وتحدٍّ مقصود، يُثير إعجاباتٍ وجدليّات تُغني المكتبات... كذلك خرج الرسم التجريديّ: دعوةً إلى الاستقلال، قليلًا أو كثيرًا، عن إرادة الطبيعة وصناعتها ومنهجها،... أم أنّ ذلك من عين ما تريدُ الطبيعة يا تُرى،
حتى صار الأمر أن الكثير من اللوحات التجريدية، أو التي يُزعم أنها كذلك، غاب معناها وأصبحت بحاجة إلى من يشرح ويقرأ ويفسّر؟
قد تجد في المعرض لوحاتٍ، رُسمت فيها مربّعاتٌ وأشكالٌ هندسية بألوان مختلفة، أو مجموعةُ مستقيماتٍ متوازية ومتعامدة، أو مربع أسود لا غير، أو نقطة صغيرة!
جرّب أن ترسم مثل ذلك، ولا تحاول الإتقان بل أقصد إلى الخربشة، وضعها في معرض ذي شهرة،... إذا كنت محظوظًا فقد تخرج ببضعة ملايين من الأوراق الخضراء!
ولكن، ولكن،...
قد تنجح اللوحة التجريدية أحيانًا إذا كان عرض الألوان فيها ذكيًا. فبالنسبة إلى كثيرين يكون اللونُ المقصدَ الأول لينسجمَ مع الأثاثِ والمحيط، وأن تقع اللوحة في قلب الشاري وتخاطب بعض جوارحه.
ألوان الأرض
بدأ بناءُ العَيْنِ منذ أكثر من 500 مليون سنة. ثمّ راحت تتطوّر إلى آلة للنظر ونقل المعلومات عند الأسماك. ومنذ 300 مليون تجهّزَت بها كلّ الحيوانات تقريبًا، من حشراتٍ وزواحفَ ودناصيرَ وما انسلّ منها من طيورٍ وثديّاتٍ. وقد صارتِ الآلةَ الأولى التي تنقل المعلومات وتصوّرُ الموجودات.
إذن، عرَفتِ العينُ ألوانَ التراب والأرض منذ بضعمئة مليون سنة، فلا عجب أن تعشق تلك الألوان وتألفَها، ولا عجبَ أن تعشقَها أنتَ بدورك وترتاحَ نفسُك إليها، ... وشوقي دلال ليس منكما ببعيد.
أدرك الدكتور دلال بفطرته وحسّه المرهفِ أهميّةَ الألوان الترابيّة وسكونَ الإنسان إليها، فجعلها أساسًا في أعماله، ينطلق منها ويبني عليها ويوظّفُها لتحمل رسائله وتصوراته.
إذا كان الأخضرُ وما يُشتقُّ منه لونَ الحياة، فالرمليُّ والبنّيُّ وما يتدرّجُ بينهما هما الأساسُ في لون الأرض الأمّ، مصنعِ الحياة.
إذا جَرَّدتَ اللوحةَ إلى اللونين فقط وما يتموجُ فيهما، لرغبتَ في أن تجعلها في دارك زينة تُمتّع بها ناظريك، وتفخر بها أمام الضيوف. أضفْ أنّ اللونين، الرمليَّ والبنّيّ، ينسجمان مع الكثير من الألوان الأخرى، فتلك سمة ألوان الأرض.
لماذا هذا الموضوع؟
أولَ مشاهدتي للّوحة غُصتُ فيها ولم أقدر على الخروج. عرفتُ أنّ فيها عباراتٍ كثيرة تشدّني إلى أن أقرأها. اللوحة جميلة بكلّ المقاييس،... ولن يطول بكَ الأمر حتى تُدرك أنّ الرسمَ يرمي إلى كَثيبٍ رمليّ.
تناول الفنّان شوقي في مشروعه موضوعاتٍ عديدةً عن المملكة العربية السعودية، مثل اللقطات للأبنية الحديثة في الرياض وجدّة، والزوايا التراثية والأسواق والقلاع والحصون. فلا بدّ إذن من موضوع عن الكثبان الرملية، فهي مَعلمٌ مهمّ من معالمِ المملكة وتغطّي ثلثَ أراضيها 630 ألف كلم م تقريبًا. نحن هنا لا نتحدث عن كلّ الصحراء، بل عن الرمليّة منها فقط.
لقد وجدَ "دلال" في الكَثيبِ الرمليِّ فرصةً ذهبيّة يطرحُ فيها على الأبيضِ ما يحبُّ من اللون، ويبدعُ بتوظيف خبرته باستعمال الألوان وتراكيبها وإنطاقها، وكتابة رسالته بالإشارات التي يختار.
لم يخترْ شوقي رسمَ الكثبان كما ألِفَها المشاهد، ولكنّه ركز في كَثِيبٍ واحدٍ حمّله بعبقريّته الفذّة معانيَ كثيرة طَيَّ حركاتٍ قليلة. رجاءً تابع معي لتدرك حقيقةَ ما أزعمُ.
قليلة العبارة فائضة المعنى
اختار الدكتور شوقي موضوعَه كَثيبًا رمليًّا، تلميحًا إلى عرفانٍ واعترافٍ برقيِّ الدور الذي تلعبه المملكة العربية السعودية في تطوير مجتمعها الداخليّ من جهة، وفي شدّ الأواصر ورتق الفجوات بين جيرانها الأشقاء العرب من جهة أخرى.
وإنّي لأظنُّ أن "دلال" فكّر في البداية برسم جملةٍ من الكثبان، غير أنه استقرّ على كثيبٍ واحد بعد أن أدرك قوة تأثير اللونين المتجاورين بتباينهما، وإمكانية تحميل عُرْفِ الكثيب الواحد أكثر من معنىً وأكثر من رسالة.
يا له من رسمٍ غنيٍّ بالمعاني بالرغم من قلّة العبارات:
توازنٌ بين شرقٍ وغربٍ، سعيٌ بين يُسرٍ وعُسرٍ، جهادٌ بين علمٍ وجهل،...
تطلّعٌ إلى الأمام، وضوحٌ في الرؤية والمسار، تحمّلٌ وصبرٌ وإصرار،...
الأثر واضحٌ في الأرض، لم تستطعِ الرياحُ طمسَه، والأبيضُ كرَمٌ وعزّةٌ ونظافة، والرايةُ هويّة وعنوانٌ وغاية،...
الطريق طويلٌ، ومرحلةُ الجهاد ما زالت في أوائلها، لكنّ الخطى ثابتة واثقة مصمِّمةٌ،...
السّيْرُ على الرمال مرهِقٌ وما أسهلَ أن تغوص القدمُ ويضيعَ التوازن! لكنّ السّائرَ متماسكٌ مُدركٌ غيرُ متلفّت،...
يُلمّحُ الرسم إلى ذلك كلّه، إلى ذلك كلّه.
طبيعية أم تجريدية؟
هل هي لوحة طبيعية؟... تستطيع أن تقول ذلك.
هل هي لوحة تجريدية؟... تستطيع أن تقول ذلك.
لقد حيّرني الأمر.
لو أن "دلال" اكتفى باللونين فقط، دون الرجل وأثره، لكانت تجريديةً من التي توضع في أرقى الصالونات.
لو أنه اكتفى باللونين والأثر، دون الرَّجل، لَحَمَلَتْ، إلى جمالِها، رسالةً قوية بليغة، كما بيّنتُ منذ قليل.
ولكن اللوحة جزء من مشروع الدكتور دلال لرسم معالم ثقافية وتراثية واجتماعية في المملكة العربية السعودية، فجاء بالرّاجلِ ذي الراية ليُتمّ الرسالة ويُكمل المعنى. وإنّي لأحسبُ أنّ الفنّانَ كان ينزِعُ إلى التجريدِ أكثر، ولكنّه ما كان ليُضيّع الهدف.
هنا، تدرك معي - عزيزي المتابع - لماذا أعطى المساحة الكبرى للكَثيبِ بجِهَتيْه، وأفردَ قليلًا للماشي على قدميه ورايته وأثره.
مائية مُتقنة
شوقي دلال رائدٌ في استعمال الألوان المائيّة. أيّما كانت اللوحة التي رسمها بالتلوين المائيّ فهي متقنة ناجحة. ناجحة بألوانها وبطريقة سكب الألوان فيها والتعبير عبرها. ذلك على الرغم من أن التلوين بالماء صعب، وقلّما يستطيع الرسام أن يتحكّم به بدقة.
أعرف الكثيرين من الذين يرسمون بالماء، وهم على شهرة عريضة، يتركون اللطخات دون تعديل كبير، فهم لا يستطيعون إخضاع الريشة لمشيئتهم ويعتمدون على تأويل العقل ومذهبِ المُشاهد في رؤية المعروض.
غير أنّ فنّاننا استطاع أن يعبّر عن الدقيق الدقيق، ويصف حالة الرملِ عند الحافة أعلى الكَثيب، وحالتَه حين ينهال إلى الأسفل بعد تكدّسه، كما هو واضح في شِمال الزاوية العليا.
إنّ درجة الإتقان التي وصل إليها الدكتور شوقي، وخاصة باستعمال الألوان المائية، تجعلني أشهد له بكلّ ثقة وإعجاب و... فخر.
وبعد
لوحةٌ تحتارُ كيف تصنّفها: تجريدية أم طبيعية؟
لوحةٌ تختزل ألوانَ الأرض، وأنا وأنت ونحن جميعًا نحبُّ ألوان الأرض، ... الأمّ.
لوحة تحمل الوفاء والشكر لأمّة حملت همّ الأمم، وحضنت في ترابها بذور الإصلاح من كلّ نوع.
لوحة قليلةٌ عباراتُها وفائضةٌ معانيها، اِقرأ وتمعّن.
لوحةٌ تفخرُ أن تعرضها أرقى الصالونات وبيوت الفنّ.
لوحة أتقن فيها الرسام وأوغل في الإتقان، باذلًا من شغفه وحبّه وتفانيه.
شكرًا جزيلًا للدكتور شوقي دلال.