يومان في العلا لا يشبهان أياماً في أي مكان آخر. هي رحلة عبر الزمن إلى أكثر من ألفي عام، في متحف مفتوح على روائع التاريخ والطبيعة. وهي أيضاً رحلة مغامرات في التاريخ والطبيعة وسهرات مراقبة النجوم وركوب الجمال والخيل والدراجات الجبلية وغيرها.
في قلب وادٍ عامر بواحات خضراء وتضاريس وعرة، وعند تقاطع رئيسي في "طريق البخور" القديمة، "المملكة" التي بقيت منسية طويلاً، عمرها آلاف السنين وتحكي صخورها حكاية شعوب استوطنتها قبل أكثر من 2000 سنة، وملوك عاشوا في أرضها ودفنوا في مقابرها.
على صخور العلا الواقعة على مسافة 300 كيلومتر من المدينة المنورة في شمال غرب السعودية، كما في واحاتها، أسرار دفينة، وآثار بيئات قديمة اختفت، بدءاً من مملكتي دادان ولحيان (في أواخر القرن التاسع قبل الميلاد والقرن الثامن قبل الميلاد)، مروراً بالمراكز التجارية النبطية، وصولاً إلى العصر الإسلامي.
ورغم أن تلك الممالك دامت فترة تمتد بين العام 900 قبل الميلاد حتى العام 100 بعد الميلاد، وكانت تسيطر على طرق التجارة الحيوية، فلا يُعرف عنها سوى القليل جداً، وغيبها التاريخ الحديث ولم يعطها حقها.
"رؤية 2030" ولادة جديدة للعلا
شكلت "رؤية 2030" ولادة جديدة لهذه المنطقة، محولة إياها الى ورشة مفتوحة في باطن الأرض وفوقها، لتنضم بخطى واثقة إلى مسار النمو المتسارع في المملكة، وتشكل أحد وجوه القوة الناعمة للسعودية الجديدة.
ورشة بناء القطاع السياحي في العلا بدأت من الصفر عام 2018 مع الخطة التطويرية المتكاملة التي وضعتها الهيئة الملكية للعلا التي يتولى رئيس مجلس إدارتها الأمير محمد بن سلمان، بهدف جعلها وجهة عالمية للسياحة التراثية والثقافية والترفيهية.
قبلها، لم تكن تلك المنطقة تضم إلا بضعة فنادق ومطاعم متواضعة جداً. وفي أقل من خمس سنوات، تخللها الاغلاق الذي فرضته جائحة كورونا، فرضت المنطقة نفسها بقوة على خريطة السياحة الأثرية، وباتت مقصداً أول لمحبي الآثار والباحثين عن رحلة في التاريخ، كما صارت الانشطة الفنية والثقافية المميزة، حافزا لجذب للسياح من حول العالم.
من زار العلا قبل خمس سنوات، ويزورها اليوم يذهل امام التحولات الكبيرة التي شهدتها. وقد شملت مشاريع التطوير توسيعاً كبيرا للمطار، ليصبح خامس أكبر مطار في المملكة بمساحة إجمالية تقدر بـ2.4 مليون متر مربع، ورُفعت جاهزيته لاستقبال المزيد من المسافرين والطائرات. ومنذ 2021، بدأ المطار باستقبال الرحلات الدولية.
وتزامن هذا التطوير مع استثمارات واسعة في البنى التحتية للمنطقة، وحجز شبكات مطاعم وفنادق عالمية فاخرة مكانا لها في المنطقة وتنافس المنتجعات السياحية على استقطاب السياحة النخبوية، الأمر الذي خلق دينامية جديدة في المنطقة، مع مئات الوظائف الجديدة لأبناء المنطقة ومواطنين سعوديين وأجانب على السواء.
تتغير العلا "بين شهر وشهر"، بحسب سكانها، في ما عدا طبعاً تلك الجبال الشاهقة الشاهدة على مرور الأزمان والممالك والحضارات.
وتقدر الاحصاءات استضافة 225 ألف زائر، غالبيتهم سعوديون، في ألف غرفة فندقية هذه السنة، مع هدف الوصول إلى مليون زائر سنوياً وأربعة آلاف غرفة فندقية في 2030.
وبالتزامن مع التطور والتحديث فوق الأرض، تشرف الهيئة الملكية بحسب المدير التنفيذي لقسم الآثار والحفظ والمقتنيات فيها عبد الرحمن السحيباني، على 12 عملاً أثرياً في العلا وخيبر، وهي تتنوع بين مسوحات أثرية وترميم وأعمال حفظ وصيانة.
وتجرى هذه الاعمال بالشراكة مع منظمات محلية ودولية لإبراز هذا الإرث التاريخي ومشاركته مع السعوديين والعالم، إضافة الى تدريب جيل جديد من الاثريين على أبرز التقنيات الحديثة في التنقيب.
السفير الفرنسي في السعودية لودوفيك بوي وصف في درشة مع "النهار العربي" العلا بأنها "بومبي الجديد". وقال إنها للأثريين حالياً أكبر حقل تنقيب واستكشاف مفتوح حول العالم.
صون الماضي من أجل المستقبل
دحضت العلا المقولات المتداولة بأن التنمية تتعارض مع الحفاظ على الآثار، وأثبتت أن المسارين يمكن أن يتكاملا، وإذا حصل أن تعارضا، فلا سببل إلا للانخراط جدياً مع المجتمعات المحلية والقطاع الخاص لصون التاريخ دون عرقلة الطريق الى المستقبل.
ولعل المؤتمر الدولي الذي شهدته على مدى يومين "قمة العلا العالمية للآثار" بدا اقراراً صريحاً من المجتمع الأثاري الدولي بمكانة العلا الاثرية وأهميتها على خريطة السياحة العالمية، إضافة إلى أنه أبرز اهتمام المتخصصين والأكاديميين في استكشاف تاريخ السعودية وإلقاء الضوء على حقبة ممتدة لأكثر من ألفي سنة ودورها في تاريخ المنطقة كلها.
نظمت القمة في قاعة "مرايا"، حيث يعانق الماضي العريق للسعودية مستقبلها الواعد. وعقدت الندوات الرئيسية في قاعة عصرية "يعانقها" تاريخ منساب من واجهاتها الزجاجية.
في "مرايا" انعكاس لمفهوم السراب في الصحراء. من بعيد يبدو المبنى الزجاجي كأنه ماء وسط الرمال، قبل أن تصل إليه وتكتشف أنه مبنى زجاجي دخل قائمة غينيس للأرقام القياسية كأكبر مبنى مكسو بالمرايا في العالم.
ويقول المدير التنفيذي لقسم الآثار والحفظ والمقتنيات في الهيئة الملكية لمحافظة العلا عبد الرحمن السحيباني لـ"النهار العربي" إن إقامة القمة العالمية في العلا أمر منطقي جداً لكونها من أبرز المواقع التي تكشف عمق التراث الإنساني، مشيراً إلى أن التواجد الانساني في العلا وخيبر يعود إلى 300 ألف سنة.
ويقول مستشار الهيئة الملكية لمحافظة العُلا سليمان الذيب لـ"النهار العربي" إن هذا المؤتمر يعطي المدينة حقها، فهي باتت مؤهلة لهذه المؤتمرات الكبرى، وهذا المؤتمر الدولي سيكون إضافة للهيئة ويمهد لاستضافتها مؤتمرات عالمية كبرى، وقمماً سياسية وغير سياسية".
الذيب، وهو أستاذ الآثار في جامعة الملك سعود، يذكر أن العلا من المناطق الجاذبة منذ القدم، وأهلها مسالمون منذ زمن طويل، "فحتى في الفترة الديدانية (التي حكمت منذ أواخر القرن التاسع قبل الميلاد وحتى القرن الثامن قبل الميلاد) لم نجد لأهلها أي شيء له علاقة بالجيش أو العسكر. وعلاقتهم مع لبنان قوية، إذ كانوا يبيعون منسوجات الى لبنان".
تحديات قطاع الآثار وسبل تفعيله
على مدى يومين، تبادل اختصاصيون وخبراء آثار ومنقبون قدامى وحاليون جاؤوا من القارات الخمس، الأفكار والرؤى حول قطاع الآثار والتحديات التي تواجهه وسبل تفعيله، انطلاقاً من اقتناع راسخ بأن الماضي حق للجميع والمستقبل ينتمي لنا جميعاً. وكانت مميزة تلك النقاشات عن العلاقات المعقدة مع التراث والماضي وتأثير علم الآثار على هويتنا الشخصية والاجتماعية.
واستعاد بعض الخبراء تجارب تشكيل الهوية في عالمنا الحديث وكيف يمكن للآثار أن توسع هويات الذات والأسرة والمجتمعات، وتتحدى محاولات طمس حقبات مهمة لخدمة سلالة أو امبراطورية أو مملكة، وكيف لعلم الآثار التعاون مع التخصصات الأخرى للقيام بذلك.
وخاضت النقاشات بعمق في ملفات التاريخ والمستققبل ولامست قضايا لم يكن الحديث عنها مألوفاً في المملكة قبل سنوات.
وقال الذيب إن هذا المؤتمر مختلف لجهة أنه يناقش أموراً تهم المجتمع، وتؤثر على حاضره ومستقبله، وموافقة الهيئات العليا على تنظيمه تهدف إلى دمج الاثار بالمجتمع.
استكشاف جوهرة المملكة
توّجت هذه القمة العالمية بزيارات استكشافية لبعض من المواقع الأثرية في "جوهرة" المملكة وكنزها الذي بقي مخبوءاً لا عن العالم فحسب، وإنما عن الكثيرين من أهلها أيضاً.
وشملت الجولة دادان التي تُعتبر من أهم الاكتشافات التاريخية في العلا، وهي كانت العاصمة التاريخية لمملكة دادان من أواخر القرن التاسع إلى أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، ثم حكمها اللحيانيون من القرن الخامس إلى القرن الثاني قبل الميلاد.
وفي مكان غير بعيد، وقفنا بين أقبية البلدة القديمة التي بنيت قبل 900 سنة قرب أكبر واحة على طريق الحج. والواحة باتت اليوم وجهة مُفعمة بالحياة تجمع معالم الطبيعة، والتراث، والفنون.
وللجولة في "ديمومة" بمساراتها الخشبية وممراتها المحددة بضوء الشموع، سحر خاص، عبر تضاريس الواحة التراثية، مروراً بمزارع النخيل، وحدائق النباتات، والحقول الخضراء. ولعلها جهة مثالية لاستكشاف المنازل التراثية المبنية من الطوب الطيني، وقنوات الري القديمة المُستخدمة حتى يومنا هذا، والمحاصيل المحلية المزروعة بأساليب تقليدية مُستدامة، بالإضافة إلى المجسمات الفنية المنحوتة على يد فنانين عالميين.
وقد تتمثل ذروة زيارة العلا بالجولة في مدائن صالح أو الجحر، المدرجة على لائحة التراث العالمي للأونسكو منذ 2008.
هي مملكة الانباط، القبائل العربية التي اتخذت البتراء عاصمة لها ما بين القرن الأول قبل الميلاد حتى سنة 106 ميلادية، وتوسعت جنوباً وصولاً إلى مدائن صالح، سعياً وراء المياه الجوفية الوفيرة.
في مقابر الجحر المحفورة في الصخر ألف قصة ولغز، لا يزال الأثريون يحاولون فك رموزها. مقبرة "لحيان بن كوزا" (قصر الفريد)، يفترض أنها تعود لفرد أو أسرة نبطية مرموقة، إلا أنه لم يعثر فيها على شيء ولم يدفن فيها أحد.
"في قصر البنت" أو "جبل البنات"، 31 مقبرة تملكها نساء. وفي جبل "إثلب"، الذي تركت الطبيعة وترك البشر على السواء، علاماتهم عليه، غرفة كبيرة نقشت بعناية داخل الجبل. وكشف الدليل الأثري أنها كانت عبارة عن قاعة أُعدت للاجتماعات، تستوعب ما لا يقل عن 13 شخصا في الاجتماع الواحد، وقد صنعت بطريقة تمنحها "خاصية صدى الصوت".
روائع وحكايات تعد ولا تحصى في الحجر الذي بقي محرماً على المؤمنين لفترة طويلة، بموجب فتاوى دينية متشددة، ويفتح ذراعيه واسعاً لوافدين من الشرق والغرب يقفون بذهول أمام معالمه.
في الحقبة الجديدة التي أطلقها محمد بن سلمان رهان كبير على القوة الناعمة. وقد تجلى ذلك في الاستثمار في قطاعات الرياضة والترفيه والجهود المبذولة لاستضافة إكسبو 2030 . وفي هذه المعركة على كسب العقول والقلوب، تشكل العلا ورقة رابحة بلا شك.