بقلم المحامي ريشار شمعون
"عطرٌ ودماء" رواية للكاتب يوسف طراد صدرت حديثاً عن دار "سائر المشرق"، تنبسط وقائعها على مدى ١٥٠ صفحة مليئة بالحركة والتشويق والإثارة في حبكة روائية سريعة الوتيرة، مترابطة الأحداث، متينة السبك، على سلاسة في العبارة وابتعاد عن التصنّع والتكلّف واستعراض القدرة الكتابية.
تدور أحداث هذه الرواية وسطَ حدّين زمنيّين: بين ١٩٨٠ (تاريخ انتساب بطل الرواية إلى الجامعة)، ثم ١٩٨١ (تاريخ تطوّعه في الجيش اللبناني)؛ وبين ٢٠٠٤، تاريخ إحالته على التقاعد. واضحٌ أن الكاتب يسردُ سيرته الذاتية كشاب من شمالي لبنان كان يطمح الى تلقي العلوم غير أن أهوال الحرب منعته من ذلك فانتسبَ مُجبراً الى المؤسسة العسكرية، حيث وجدَ نفسه في عالمٍ مختلف تماماً عن العالم الذي كان يعيشُ وسطَه: النظام العام، التراتبية، شظَف الحياة، الإمرة الصارمة، وسواها من سمات تميّز حياة الجندية… واضحٌ أنّ يوسفَ يكنّ للجيش اللبناني محبّةً خالصة نابعة من جذورِه أولاً، وثانياً من تجربته واندماجه ومعاشرته اللصيقة لهذا المجتمع الصامت. ترجمَ حبّه هذا عبر نقل أحداث مؤلمة ومؤسفة حصلت معه أو كان شاهداً عليها أو علمَ بها صدفةً. بدءاً من تطوّعه الذي جرى على قاعدة طائفية، مروراً بالمعارك التي شاركَ فيها كمُسعف إخلاء الجرحى، معاركُ كانت بين أبناء الوطن الواحد، كما في الشحّار الغربي وسوق الغرب وبيروت الغربية والضاحية،،، وانتهاءً بعودته احتياطيّاً الى الخدمة عقبَ الاجتياح الاسرائيلي العام ٢٠٠٦. وفي نقلِه للأحداث كان يوسف طراد صادقاً وأميناً، إذْ إنه لم يكتفِ بما سمعه أو عاينه، بل عادَ، بعدَ ردحٍ من الزمن، فدقَّقَ واستقصى وقلَّبَ وقاطَعَ لتثبتَ مرويّاتِه ثبوتاً يقطع الشكَّ باليقين، ما أتاحَ له البوحَ بها مطمئنَّ البال مرتاح الضمير.
لقد أورَدَ الكاتب عدة وقائع حصلت داخل المؤسسة، منها ما هو معلوم ومنها ما كان مجهولاً. فلم يتردد في الكشف عن دور الجيش السوري في اضطهاد الجيش اللبناني مؤسسةً وأفراداً، مباشرةً أو بشكل غير مباشر، فأوردَ كيف أنّ الأوّل ضمَّ إلى الحاجز الذي كان يقيمه في المدفون المدعو "جوزف العرباوي" المنتمي الى ميليشيا "المردة" والذي كانت مهمته خطف جنود الجيش (ص٤٧)؛ وكيف أن الرئيس السابق أمين الجميل قد أصدرَ أوامره بقصف مناطق الضاحية بدون التنسيق مع قائد الجيش العماد ابراهيم طنّوس الذي خاطب الرئيس الجميّل قائلا: "أنا لستُ بقاتل!" (ص ١٠١)، وكيف أن ميشال عون الذي "حلمَ بالأزمنة وعاش في الأمكنة" (ص١٣٣) قد تسببت خطة فاشلة منه لاحتلال تلّة الرادار (بين كيفون وبيصور)، بسقوط ستين شهيداً للجيش اللبناني (ص٧٥)…وسواها من وقائع نقلها "الرتيب" يوسف من قلب الحدث. الملفت أن يوسفاً هذا قد "رفع علم التيار الوطني الحر على سطح منزلِه، بعد تقاعده" !!! (ص ١٣٤).
لا تخلو الرواية من الطرفة، ننتخب منها واحدةً حصلت أثناء التدريب، عندما سأل الضابط جنوده: من هو رئيس الجمهورية؟ ليجيبه أحد الأغرار: إنه الفريق الأول حافظ الأسد !!! (ص ١٨).
كثيرةٌ هي الأحداث المشوّقة التي تضمنتها الرواية، والتي منها ما هو متصل بعنوانها، فيوسف الممرّض والمسعف، "لم يبحث عن الحبّ، بل بحث الحبّ عنه" (ص ٨٥) وذلك عندما تسنّى له التعرّف الى الممرضة في مستشفى مار يوسف، "صوفيا"… "صوفيا" وحدها، بعطرها المميّز، استطاعت محوَ رائحة الدم من أنف يوسف ومسامّه وربما وجدانه.. تعارفا بين جريحٍ وقتيل، بين جرحٍ وقطبة، بين قذيفةٍ وقذيفة وحدثَ بينهما، وبعدهما، ما حدث…. ما كان في الحسبان وما لم يكن، مما نترك للقارئ مرافقته.
يوسف، الذي كان يكره الحرب فاختار التمريض بدلَ القتال، لطالما كان يتساءل، وهو في جحيم الحرب: "أيها الوطن.... ماذا هناكَ على المقلب الآخر من جبهة سوق الغرب؟ هل هناك، كما في مناطقنا، أمّهات اللوعة، وآباء الحزن، وأهل الفقد، وأبناء الخسارات؟... " (ص 77).
"عطرٌ ودماء" هي أكثر من رواية أو سيرة… إنها، أيضا، وثيقة تعني الباحثين في تاريخ المؤسسة العسكرية وتاريخ لبنان الحديث والمدققين في أرشيف الحرب، سواءً بسواء. هذه الوثيقة أتت من جندي عادي (رتيب) شجاع وصادق ليسَ لديه سوى دفتر حساب واحد: الإخلاص للوطن.