النهار

قراءة في الرواية "عطر ودماء" ليوسف طراد... شهادة حياة بالحبر الأحمر
المصدر: "النهار"
قراءة في الرواية "عطر ودماء" ليوسف طراد... شهادة حياة بالحبر الأحمر
غلاف الكتاب.
A+   A-
شربل شربل
 
لا أستطيع تخمين ما يمكنكم أن تتوقّعوه عندما تقرأون عنوان كتاب الأستاذ يوسف طراد الجديد "عطر ودماء"؟
 
أمّا أنا فتخيّلت مأساةً تزكم رائحةُ الدماء، في ثناياها، الأنوفَ، وتخفّف من وطأتها الساحقة رائحةُ عطر لا تلبث أن تتبدّد لتخليَ المكان لرائحة السائل الأحمر المنزوف المتخثّر.
 
ولا غرابة في هذا التخيّل، فروايات المآسي غالباً ما تُغلَّف بقشرة غرام؛ فالروائيّ، مبدع القصة وسيّد العمل، يرسم ما يراه مناسباً لخدمة هدفه، حقيقيّاً كان أو متخيَّلاً.
 
فإذا كنتم تعرفون مسبقاً أنّ الكاتب المثقف العصامي، يوسف طراد، كان، قبل أن تدركه حرفةُ الكتابة، منتمياً إلى الجيش اللبنانيّ، وقد أمضى في صفوفه أكثر من عشرين سنةً في خدمة الطبابة العسكريّة، وأنّه ذاق الأمرّين في عزّ أيام الحرب، وقام بمهمات إسعاف على الجبهات المشتعلة، وعمليات إخلاء مصابين أحياء وجثثاً، إذا كنتم تعرفون ذلك كما أعرفه، فإنّكم ستحسنون التوقّع.
 
"عطر ودماء" سيرة المجنّد "يوسف" الذي أرغمته ظروف الحرب، التي ذكّرنا ببعض قساوتها ومخاطرها، على ترك الجامعة والتطوّع في الجيش بصفة جندي، وكان من حقّه أن يتطوّع بصفة تلميذ ضابط كونه يحمل شهادة البكالوريا، فرع الرياضيات. ولأنّه لم يكن مؤهّلاً للقيام بما توجبه مهمات الجندي المقاتل على أرض المعركة… حاول الانسحاب، ولكنّه عزف عن الفكرة عندما جرى نقلُه إلى الطبابة العسكرية حيث وجد نفسه يقوم بعمل إنساني بالغ الأهمية، في إطار المؤسسة التي يعشقها، وتحت راية الوطن الذي نذر نفسه لخدمته، من دون تفرقة ما بين مكوّناته.
 
بمنتهى الدقّة والتدقيق، يسرد يوسف طراد الأحداث التي عاشها، وفقَ تتابعها الزمنيّ. وهو يدرك أنّ عمله ليس تأريخاً بكلّ ما في الكلمة من معنى، ولكنّه تفاعل حقيقيّ مع الأحداث يسمح للكاتب بإبداء رأيه، ووصف وجعه لما يحصل، ومآسي ضحايا القتال، وأهمّيّة القيام بالواجب بشجاعة وإقدام وسرعة، وسْط المخاوف، من ألغام مزروعة في الأرض، وقذائف متساقطة من الجوّ، ورصاص قنّاصين لا يتورّعون عن استهداف سيّارات الإسعاف!
 
 
سيرة يوسف هذه غنيّة بوصف عمل المسعف والممرّض اللذين قد يجتمعان في شخص واحد تضطرّه ظروف العمل على الأرض إلى ممارسة العملين معاً، وتحمّل مسؤوليّة ما يفعله.
 
كثيرة هي الروايات التي دارت أحداثها حول الحرب اللبنانيّة وانعكاساتها الجمّة، ولكلٍّ منها مكانةٌ بحسب رؤية الكاتب وموقعه وثقافته واستعداده. و" عطر ودماء" تقف وحدَها، لأنّها تنفرد في كون صاحبها الذي عاش تجربةً خاصّة في قطاع عسكريّ، هو "البطل" و"الراوي" و" المؤلّف"، في آنٍ معاً. وربّما كان لذلك التأثير الكبير في جعل القيمتين الإنسانيّة والتاريخيّة للقصّة تطغيان على القيمة الفنّيّة؛ فهي "تدوينات حقيقيّة" كما كتب على الغلاف، إتّبع فيها الكاتب سرد الأحداث وفق تتابعها الزمنيّ، ولم يلجأ إلى الاستباق أو الاسترجاع لغايات فنّيّة، ولم " يحبك" الأحداث وفق تصميم فنّيّ هادف.
 
قد نقول "من فيض ما في القلب تكلّم اللسان"، ولكن هذا لا يكفي لوصف العمل. فالكاتب لم يبخل في التحليل، وإبداء الرأي، والتحسّر على الدماء التي تسيل، والأرزاق التي تهدم، والنسيج الوطنيّ الذي يزداد تمزّقاً…
 
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّه أجاد في وصف اللقاءات الغراميّة التي جمعت يوسف وصوفيا، فأشاع في عدد من الصفحات عطراً يذكّرنا بقصص الغرام في وسط المآسي كما بين المسافر جاك (ليوناردو دو كابريو) والعشيقة روز(كيت ونسلت) في فيلم التيتانيك…
 
كما استطاع أن يتوغّل في حنايا الذات وفي مخبّآت صدور رفقاء السلاح، ويصف موقفهم من الحياة، واستسلامهم لقدرهم، وتصميمهم على خدمة الوطن مهما كان الثمن. ولم ينسَ ذكر الخيبة، خيبة الأمل، التي يُمنى بها من حمل دمه على كفّه إيماناً منه بمُثُلٍ عليا وطنيّة وإنسانيّة، عندما يُفاجأ بأنّ كلّ التضحيات ذهبت هباءً منثوراً، وعاد الفاسدون أصحاب الأيادي القذرة، وأمراء الحرب إلى التربّع سعداء على الكراسي، ومتابعة نهب خيرات الوطن وحرمان الفقراء من أبسط حقوقهم، باسم الطائفيّة والتخلّف والارتهان للغرباء الذين كانوا، ولا يزالون، يضمرون الشرّ للبنان، والذين عبّر بلسانهم نزار قبّاني عندما خاطب بيروت نيابةً عن لبنان قائلاً:
نعترف أمام الله الواحد نعترف
أنّا كنّا منكِ نغار
وأنّ جمالك يؤذينا…
وأنّا أهديناكِ مكان الوردة سكّينا…
 
أستاذ يوسف،
سيرتك هذه، التي تتقاطع وسيرة الوطن على مدى عقدين من الزمن، مشرِّفةٌ لك ولكلّ مسعف وممرّض، ولكلّ وطنيّ يقدّر التضحيات ويأسف لسفك الدماء، كائناً من كان صاحبها.
"عطر ودماء" كتاب جدير بالقراءة، مليء بالعبر.
مبروك، وإلى مزيد من الإبداع…
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium