تفتح الأزمات التي تعصف بالعالم عموماً والعالم العربي خصوصاً المساحة الكبرى أمامنا للحديث عن الصحّة النفسيّة بجوانبها وشوائبها والعقد الطارئة عليها، ولا ريب في أنّ الظواهر الاجتماعيّة ولا سيّما الفقر والحروب والبطالة... تغدو تدريجاً طبقاً دسماً للتركيز على الجانب النفسي للفرد ومحاولة تقبّله لذاته وذوات الآخرين ومشاكلهم في المجتمعات المرهقة، ولأنّ الأدب وفقاً لتعريفاته المعياريّة مرآة تعكس لنا أوجه الحياة، تدخل الرواية العربيّة على خطّ تجسيد المعاناة النفسيّة للفرد العربي. يُطرَح السؤال الآتي: هل سيبقى الجانب النفسي للفرد جزءاً من كلّ العمل الروائي؟ وكيف استطاع الروائيون العرب تجسيد الملامح النفسيّة للفرد وفقاً لتجاربهم؟
في هذا الموضوع وتزامناً مع زمن الشهر العالمي للصحّة النفسيّة، نتعرّف إلى تجارب ثلاثة من أهم الروائيين في العالم العربي انطلاقاً من رواياتهم وتجاربهم الكتابيّة عن الجانب النفسي ومحاولة تجسيده كاملاً وواقعيّاً في العمل الروائي.
نجوى بركات: من السلوك النفسي للجماعة إلى أزمات الفرد
ترى الروائيّة اللبنانيّة نجوى بركات (1966-...) أنّ مجمل أعمالها ركّزت على الحالة النفسيّة الجماعيّة لأفراد المجتمع، معتبرةً أنّها لا تتابع حالة نفسيّة لبطل أو شخصيّة محدّدة باستثناء رواية "حياة وآلام حمد ابن سيلانة" التي حملت وفقاً لبركات مغامرة ابن سيلانة الرافض لنهائيّة الإنسان، وفي حديث لها مع "النّهار"، تشير بركات إلى روايتها الأخيرة "مستر نون" القائمة بموضوعها على الالتباس الذي يبعث القلق بين الكاتب والواقع والخيال، حيث تضعنا الرواية أمام كاتب تطارده أشباحه الموجودة في بقعة جغرافيّة مأساويّة وبالتالي فإنّ أيّ عمق نفسي وأيّ عقدة نفسيّة طارئة على أيّ شخصيّة في أيّ عمل روائي يدفعها إلى المغامرة والسعي إلى تجاوز نفسها قبل تجاوز الآخرين.
وتؤكّد صاحبة رواية "باص الأوادم" أنّ مجمل أعمالها الروائيّة حاولت أن تتمحور بأسلوبها ومنهجها على ردود فعل الجماعة في المجتمع، معتبرةً أنّ الشخصيّة إن لمْ تُعالَج انطلاقاً من بعد نفسي أو أن تتجسّد في الرواية منحنيات ومستويات الصحّة النفسيّة للأفراد فإن الشخصيّات تغدو مسطّحة ويصبح العمل الروائي شبه مفرغ.
طارق إمام: الكثير من أبطالي "سيكوباتيّون"
يبدأ الروائي والقاصّ المصريّ طارق إمام (1977-...) مباشرة الحديث من تجربته الروائيّة، معتبراً أنّ عدداً غير قليل من شخصياته الروائية ينطلق من افتقاده لما يعتبره عموم الناس "السواء النفسي". ويضيف: "الكثير من أبطالي سيكوباتيون أو ذهانيون أو مغتربون ممّا يجعلهم على حافة الجنون، وأحياناً في العمق منه"، فضلاً عن أنّ دور الفنّ (وبهجته) يتعمّقان بالتقاط الفرد المستقرّ في الهامش، لا فقط الهامش الطبقيّ أو الثقافيّ، لكن أيضاً الهامش الذي يمثّل يسار متن المنطق وهيمنة العقل على تفسير العالم. ففي أعماله شخصية تقتل لتكتب الشعر، وأخرى تمارس الحبّ في الأضرحة، وثالثة تمارسه في المقابر، ورابعة تمارسه مع شخص مجهول في مرآتها... وغيرها.
يرى كاتب رواية "ضريح أبي" التي تأهّلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربيّة لعام 2022 أنّ هذه الشخصيّات تُقدّم باعتبارها شخصيّات عاديّة، تمر إلى جوارنا كل يوم في الشوارع وتزاملنا في العمل وتشاركنا وسائل المواصلات وتقتسم معنا الفضاء المدينيّ نفسه، دون أن نرى خلف ابتساماتها المتفق عليها بقعة الدم الكبيرة التي يخلفها نصلٌ في جسد ضحية.
ويضيف أنّ الشخص السويّ (إن اتفقنا على وجود هذا الشخص)، بحاجة دائماً للاختبار تحت مجهر الفنّ، لنراه في قمّة غرابته وشذوذه ووحشيته وساديته ولا عقلانيه... النفس البشرية في تقديري متاهة مظلمة تنهض خلف واجهة مضيئة. والفن، كما أعرفه، مغرم بكشف الظلام، الذي يمثل المسكوت عنه في المناحي كافة.
ويختم إمام باسترجاع اقتباس من روايته "ماكيت القاهرة" عبر وعي البطلة نود: "الجميع، على اختلاف الأعراض، مرضى بالحياة".
جلال برجس: الرواية قادرة على الكشف النفسي
يسوّغ الروائي والشاعر الأردنيّ جلال برجس (1970-...) اختياره مسار الوعي النفسي بشخصيات رواياته على أنّها منهج يسهم بإيجاد مساحة للقارئ ليتعرف إلى تلك الشخصيات من مختلف أبعادها، ويشير إلى أنّ الوجه الآخر لهذه المنهجيّة يعود إلى سيكولوجيّة القراءة، إذ إنّنا - وفقاً لمؤلّف رواية "دفاتر الورّاق" الحائزة جائزة الرواية العربيّة عام 2021 - في مرحلة تجتاحها الكثير من المصاعب التي ترهق النفس البشريّة، وبالتالي يمكن أن تؤدّي إلى كثير من الأزمات النفسية.
وعن وضع القارئ خلال التطرّق إلى الوعي النفسي في الرواية يؤكد برجس لـ"النهار ": "إنْ تأمّلنا دوافع القراءة خاصة الروائية نجد أنّ الكثير من القرّاء يسعون إلى شكل من أشكال الخلاص عبر فعل القراءة، وهذا الخلاص بطبيعة الحال يأتي من تلك المساحة التي يتركها الروائي للقارئ ليبني روايته الخاصة عبر التقاطعات مع الشخصيّات"، معتبراً القراءة إعادة كتابة للنّص الروائيّ ولكن بأدوات مختلفة، ويتابع برجس عائداً إلى الكتابة: "مثلما أؤمن بأن الكتابة يمكن أن تكون وسيلة علاجية للذاتي والموضوعي، يمكن أيضاً للقراءة أن تكون كذلك".
ويختم مؤلّف "أفاعي النار" انطلاقاً من اليوم العالميّ للصحّة النفسيّة بالثناء على الجهود المعرفيّة التي تُبذل من خلال الكتابة الروائية بحيث يقوم الأدب الروائي بدوره على الصعيد الإنساني في مقاربة أزمة الفرد، وطرح العديد من الأسئلة حيالها لتأتي الإجابات من مساربها الخاصة.
لقد استطاعت الرواية في هذه المرحلة أن تقارب البنى النفسيّة للفرد، وبالتالي أصبح بإمكانها أن تعكس صورة عما يحدث للإنسان على صعيده النفسي. ما عادت الحياة سهلة، بل صارت أكثر تعقيداً، وبالتالي فالفرد ضحيّة كلّ تلك التقلّبات، ومن هنا أؤمن بأنّ الفنّ الروائيّ الحديث قادر على الكشف، وعلى أن يكون سبيلاً للخلاص على صعيدَي الكتابة والقراءة.
يُجمع الروائيّون الثلاثة على أنّ الجانب النفسي يتّخذ حيّزاً جوهريّاً في المعالجة والتجربة الكتابيّتيْن من جهة ولدى القارئ الغارق في أزمات واضطربات في صحّته النفسيّة من جهة أخرى متَّخذاً القراءة في أغلب الأحيان سفينةً للهرب من صراعاته وحاضره المعقّد.
وفي اليوم العالميّ للصحّة النفسيّة ومع تكاثر العقد والاضطرابات في النفس البشريّة يبقى السؤال: هل الكتابة بوجهها الروائيّ ستكون حتماً مرآة تعكس المشاكل النفسيّة والعقد الإنسانيّة بحذافيرها وتظهر كذلك الحلول؟