"لو تعرف، يا كوبر، كم يشتهي كائن مثلي، أن يرى إلى بعض حياته مرويّاً بسينما عينيك، ونبرات صوتك، وحبر حياتك".
كتاب فرد يحادث علاقة شاعر بكائنه الأليف. كلبه الذي اسمه "السيد كوبر". يصوّر الحياة المشتركة بين كوبر وتابعه البشري: الألفة والمودّة والحوارات الساخنة. وكذا المشاعر والاعترافات. تماماً كما كتاب المتبهلين القديسين القدامى، كما في كتاب العابد والمعبود، كما الإنجيل.
فيه من للفلسفة ما فيه من الشعر. فيه من الموت اليومي اللبناني ما فيه من الفروسية الدونكيشوتية.
رواية فيها بهاء العزلة وشهادات عن برهات ثقيلة في الوجدان، من ثورة 17 تشرين، إلى كوفيد-19 القاتل.
كلب من فصيلة "أكيتا" بشهرته الأسطورية. ظلّ يذهب إلى القطار عشر سنوات، منتظراً عودة سيّده الذي قضى أجله وهو يتابع محاضراته، أمام طلابه الجامعيين.
حقيقة، يطرح الروائي عقل العويط، لأول مرة، في سوق الأدب، مفهوماً جديداً: مفهوم الحداثة البعدية للرواية. يعمل على وحدة تحكم صمّمها في عمله، لتسهل اللعب على الأشخاص الذين يعانون أمراض العصر: التورم والانتفاخ والتشاوف والتعالي والاستحواذ والاقتناص والبطنة والشهوة وعدم الإشباع. الذين يعانون إعاقات مرضية نفسية وشهوية وعقلية متضخمة، إلى حد الجنون، بحيث يضعك من خلال مشهد واحد، أو من خلال جملة واحدة، أمام قطاع من الألعاب الرؤيوية، في عمل روائي بسيط، بحجم الجيب. تحتاج إليه كلما أردت، أن تجدد النظر إلى قراءة جملة، أو مقطع، أو فصل، أو مشهد، أو سرعان ما تنشد إلى تيار روائي سينمائي. مسرحي. جاذب، لشخص. ولظل الشخص.
وحدة التحكم الروائي التي صنعها عقل العويط، تقوم على ثنائية الرجل وظله. الرجل وصديقه. الكلب وصديقه الرجل.
الرجل المتوحد، والمتحد بنفسه، والمتحد أيضاً بثنائيه، إنما هو بطول عصا الدهر. إنما هو بطول الأرض. لأنه منجذب إلى الأرض.
وحدة التحكم في هذا العمل الروائي البسيط، حتى ظل الشخص وظل الوردة، وظل السلطان: قزماً أو عملاقاً من العماليق، هي التي يبهر بها عقل العويط قارئه، بحيث يجد نفسه على أرض رواية، هي لعصر الحداثة الرؤيوية البعدية، التي تجعل من القطاع الروائي مشروعاً لتسهيل فهم الشخصيات الكثيرة، في شخصية واحدة. كأن عقل العويط فهم من خلال نصف قرن من متابعة الأعمال الروائية: القديمة والجديدة والحديثة والمعاصرة، أن الحاجة البعدية هي الأهم للقارئ، لأنه في عصر الحداثة البعدية. لأنه في عصر المشاهد الهوليوودية.
"ها أنا أعيد قراءة ما كتبت، فاعذرني، لأني لست روائياً، ولا كاتب سيرة، أريد أن تتأكد من أن النص الذي بين يديك، اجتهد على طريقته، في أن تكون مروياته، أقرب إلى شفافية مراياك".
تحقيق العدالة بين القارئ والبرهة الاستباقية، هو مشروع عقل العويط، في اللغة والشعر والمقالة والقصة والرواية. فقط هو اتجاه نراه في قطاع عمله الأدبي، يريد من خلاله ألا يتحمل القارئ مسألة تكيّفه مع العمل الكتابي/ الروائي، بل أن تكون وحدة التحكم الفني، مكيّفة مع زمنه. زمن الحداثة البعدية، الذي ينتظره، قاب قوسين أو أدنى من أجله. من أجل العصر. من أجل الأرض. قبل فوات الأوان.
"كوبر فرد من عائلتي... لم أتردّد في الموافقة على إجراء الجراحة... لئلا تتفاقم الإعاقة".
كثافة رؤيوية، في عمل عقل العويط، تجعل من مهمته تواجه البعدية كلها، بعد الطغيان. بعد الطوفان. وذلك لعدم وجود، ولو شخصين، بعبء واحد. ولعدم وجود عمل روائي، يواجه إعاقة ما بالطريقة عينها.
"كان كوبر صنو هذا الكائن الآخر (الحبيبة أو الزوجة أو الابنة أو الابن) الذي لم أقم معه يوماً تحت سقف واحد، في السابق من أيام حياتي المنصرمة".
وضع عقل العويط، نفسه، في مشهد واحد. في جملة واحدة: "السيد Cooper وتابعه". ثم راح يكيل الريح. يريد المساواة في التوجيه. في مختلف الاتجاهات، لتسهيل الضغط. وتسهيل الفهم. والجمع بين وحدات فنية روائية سينمائية بامتياز. وذلك لتنفيذ مهمة واحدة: التداني مع البرهة الاستباقية.
"كوبر على مقربة، وأنسي يغط في غرفته في نوم عميق. هذا يكفيني لأتحمّل الأعياد وطقوسها".
هناك أكثر من نقطة تحكم في هذا العمل الروائي، الرؤيوي، الحداثوي، البعدي، تتمثل في أذيال القصّ الأخاذ. يمسك بها القارئ، لئلا يغرق في اللجة، ويستنقع في القاع مع السيد Cooper الذي هو الكلب. ومع صاحبه كذلك. لأن هذه الشخصية هي دمية القارئ، مثلما هي دمية الكاتب. مهارة في العمل الروائي اللاهي، تجعل القارئ يسبق الكاتب، في عمله، مثلما الروائي يسبق القارئ في إقامة المشهد، المشاهد. في تأليف الجملة في البرهة الإبداعية الناطقة بجميع الأحاسيس والمشاعر.
"كان ثمة سؤال يقضّني مذ انقلب الدهر انقلاباً فظيعاً بحياتناً... كان هذا المرء مثلي لا يستطيع أخلاقياً، أن يفرّق بين معاملة كلب، ومعاملة إنسان..."
شخصية السيد Cooper، ممتلئة بتابعه الممسوخ الذي هو الإنسان. رجل ممسوخ، بوجه ممسوخ، ممتلئ بألوانه التي تدل على أنواع أمراضه. على أنواع إعاقاته، في الجيل المقيم. في الجيل القادم.
" كوبر بمثابة أخي وابني... أأتركه مثلاً بدون حمام شهري، بدون طعام صحّي. بدون عملية جراحية. فيصبح معطوباً في مشيته؟."
كتاب يتكيف مع إعاقات الشخصيات العصرية، المنتجة للأمراض المقيمة، كما للأمراض القادمة، التي تتيح توصيل الأفهومات المشروعة، بطريقة خفيفة بعد كل حرب. لها خفة البرق. تصنع البارقة. تقدم المنتج اللانهائي: العمل الروائي في الحداثة البعدية، التي يصنعها اليوم عقل العويط، بعينين من هوليوود. بعينين من حديد.
"هذا الخراب الذي يتراكم فيّ، والذي أنا فيه، هل كنت لأكون "شيئاً" مهماً من دونه؟ لست أدري يا كوبر."
حقيقة، شبع القارئ المعاصر من الكتابات الجماعية. من البطولات الجماعية. صار يشتهي الفرادة. صار يشتهي اللمع، لا السرودات/ السرديات المتآكلة. لم يعد له طاقة على الوقوف أمام أكثر من بطل. صار يفتش عن ثيمة البطل وعن معنى البطولة. عن الماورائية في الشخصية. عن الغامض. عن المتماهي. عن اللامعقول والخارق، في الكشف عن البرهة القتيلة في الوقت. في الزمن. في الدهر. يأخذ من كفنها خيطاً، ينسج منه وجه البرهة القتيلة، ليعلن أمام قبيلة الكتاب، أن الشأن شأن الفرادة، لا شأن التجنيس والنقل الممل في الكتابة. ولا في الشعر. ولا في الرواية.
"ها أجد نفسي متورّطاً باحتمال مأساوي، في فقدان كوبر المفترض".
أحلام السيد Cooper، هي أحلام ظله الممسوخ في وجه رجل. وأحلام صديقه الذي ضاع في الدرب. هذه هي المحطة الأهم، التي أثرت النص البعدي، تحضيراً لمواجهة الحداثة البعدية.
"سيقول عني، كوبر، في أحد الأيام إنّي، ولا بد، شخص مجنون!".
عقل العويط، روائي قاسٍ على نفسه. يعيش القلق ويعاتب Cooper، تماماً كما كوبر يعاتبه بإستمرار. يجده يحتل وجوه كل الشخصيات، في الحضور العام للعصر. ولهذا نراه في هذه الرواية، يضطر لمشاهدة نفسه، كي يتعرف إلى أخطاء مجتمع ، كي يتطور في العمل الروائي، ويقيم فيه مشاهد هوليوودية أخاذة. يقيم فيه قارئاً. كاتباً. شاعراً. روائياً. وبيده سبحة لعد أخطاء السجان كما السجن الذي يواريه.
"أكان يريد أن يعرب عن استقالته مني، ومن صداقتي ومن الوجود؟ أكان يريد أن يقول: أنا مائت في إقامتي معك داخل البيت، فكيف لا أكون مائتاً في زمن كوفيد؟".
عقل العويط، يغلق الكتاب المتعدد على نفسه، وكأنه بحساب الجمل. كل حرف له قيمة. لأنه مستهدف من نفسه. يغلق نصّه على عقل البعدي، ليكون عادلاً مع نفسه، في توجيه الأسئلة لجميع المتهمين، في السجن الكبير الذين يتقمّصهم، في كتابه المرمّز والمتعدّد.
الدكتور قصي الحسين