عمر سعيد
كعادته تأخّر يوسف طراد حتّى خلع بزّته العسكرية في روايته عطر ودماء الصادرة عن دار سائر المشرق في بيروت-صيف ٢٠٢٣.
لأكثر من مرة كدت أترك الرواية، وأصرف النظر عن إتمام قراءتها. فقد أتت الصفحات الأربعون الأولى منها عرجاء، كعرج لاعب كرة القدم المصطنع إذا فشل في تسديد هدف.
إلّا إنّ صوتاً في داخلي، ظلّ يهمس مردّداً: "لا بد أن يخلع طراد بزّته العسكريّة، فأرى صدره العاري".
أطال يوسف إقامته خلال كتابة الرواية بين القارىء والنّاقد، والجندي الحائر في خيارات، لم يكن له من مناص على المضيّ فيها.
فجأة خلع يوسف لباسه العسكري، وأخذ يكتب عارياً إلّا من ذاته، وراح يتوغّل عميقاً، حتى وجدتني أراه، يكشف عن لحمه الحيّ؛ فينزف حبّاً، وحنيناً، وتساؤلات، وتردداً، ووطنية.. الأمر الّذي مكّنه من انتزاع أكثر من دمعة منّي أثناء قراءة روايته عطر ودماء.
لقد كشف يوسف طراد لي كقارىء أنّ تحت تلك الملابس المخصّصة للحرب والموت كثيراً من الإنسان، والحبّ، والأملّ، والإرادة، والدّفء.
نعم. أتت مشاهده العاطفيّة مقتضبة جداً مقارنة بسرديّاته الطويلة عن حياة الجنود في الحرب والمعارك، وعن ظروف الوطن والناس خلال الحقبة الّتي تطوّع فيها بصفوف الجيش اللبناني.
مشاهد مقتضبة وجداً، إلّا أنّها أشد حدّة من ثقوب الطلقات وشظايا القذائف في أجساد أولئك الّذين أخبرنا يوسف طراد عن سقوطهم.
فحين أحبّ، أحببتُ معه، وحين ضرب موعداً للقاء حبيبته، ركضت قبله إلى حيث الملتقى.
وتردّدت حين تردّد، وخفت حيث خاف، وافتخرت عندما افتخر، إلّا إني بكيت حيث لم يبك.
بكيت حين أخبرني تفاصيل موجزة عن حياة محبوبته صوفيا الّتي قضت بقذيفة.
بكيت حين أعاد الحياة إلى جنديّ، دُفِن حيًّا في مستودع الجثث في المشفى.
بكيت حين أقفل مشهد موت صوفيا، وعاد يرتدي لباسه العسكريّ، ليتمّ واجبه الوطني الإنساني، مخبئاً تحت ذلك اللّون الزّيتي حزناً كبيراً، تجنّب كثيراً تسييله كلماتٍ فوق الورق؛ إلّا إنّه عرف كيف يسرّبه إلينا دخانًا يُدمِع الروح والعيون.
رواية عطر ودماء ليوسف طراد سيرة ذاتيّة بـ ١٥٤ صفحة. قدّم لنا خلالها يوسف طراد عرضاً بعيون لبنانية وطناً عانى حروباً، وانقسامات واحتلالات، واتّفاقات بيع فيها الإنسان والوطن. بدون أن يمس كل ذلك من جندي ممرّض تنزه عن الميول والانحيازات، فكان يسعف أخاه الجندي الجريح وعدو الوطن متجاهلاً فوّهة البندقية، والجهة الّتي صوّبت إليها.
لقد فعلها يوسف طراد، وقدّم لنا عملاً يستحقّ أن يكون مقرراً لطلّاب المدارس والجامعات، لما فيه من عرض لحقائق يمكن للجميع رؤيتها، دون تخبّط أو اختلاف.
وعلى الرغم من ذلك العرج الّذي تلطّى خلفه في بداية الرواية، كما لو أنّه فكّر كثيراً بالتّوقّف عن كتابتها، إلّا أنّه فعلها، وقدّم لنا نصاً روائياً أنصح بقراءته، واقتنائه في مكتبات بيوتنا ومؤسّساتنا للأجيال.