عبود سمعو - شاعر وكاتب من سوريا
تتسرّب في الصباح آثارُ تهويدةٍ قديمة، واحدة من تلك التي أتقنت الجدّاتُ تحوير كلماتها، فصارتْ عبئًا على ذاكرةٍ هَرَسَ اليومُ يَدَ أمسِها المخضّبة بالحِنّاء، وبدا على ظهرها وشمٌ هندسيّ بهت لونه بين أمواجٍ من التجاعيد السّمر، يستديرُ في إصبعها خاتمٌ من الفضّة، ستصنعُ منه غدًا مرآةً بإطارٍ مذهّب، تحملها بكلتا يديكَ.
تقفُ سفيتلانا مادّةً رأسها فوق كتفها اليمنى، فاغرةً فمها، تكربُ خصرها بيدين بلّوريتين، وبتهكّمٍ متقن قالت: "أيعقلُ أن تعلّق مرآةً في الشرفة؟".
- هذي ذاكرتي، وأنا حرُّ التصرّف بها.
- مجنون، ماذا سيقول الناسُ عنك؟ يُعلّقُ مرآةً للحَمامِ والعصافير!
ولِمَ لا؟ قلتها بينما يداي مشغولتان بربطِ هِبْريّة زرقاء حول زاوية المرآة، وهذي تميمتي. بعنادٍ طفوليّ رمقتُها، فأسبلتْ يديها، وتنهّدت مستسلمة.
تعالي يا سفيتلانا وانظري! هذه حارتنا، ولبعدها عن مركز المدينة، قيل إنّها في آخر مُلك الله.
هؤلاء الأولاد أصدقائي، بثيابٍ قديمةٍ لكنّها نظيفة. أقسم لك إنّها نظيفة. تستطيعين أن تشمّي رائحة البشرى والأوريس في أيام الجمعة المملّة. خمّني، أيّ واحدٍ من بينهم أنا؟
هنا كنّا منشغلين بترميم ذاكرة العصافير، حول فخاخ نُصبتْ على عجل.
نحن ديدان القزّ تزحف على أغصان شجرة التوت، نمضغ معنى المفردات المؤلّفة من مقطعين صوتيين، وتقليباتها، نهجّي أحرفها، فنتجشأ صدًى دائريًّا في واو "جوع"، وصدًى شاقوليًّا في لام "حلم".
هنا نغنّي للهامش، نناغيه، نلعب معه، نعدُّ على أصابعه الكثيرة أحلامنا، أسماءنا، أخطاءنا. وها هنا، انظري، في راحتيه تضحك الدهشة.
حويليكات:
لم تكن الألعاب التي استوردناها، أو ورثناها، أو حتى تلك التي اخترعناها، مجرد ألعاب لتمضية الوقت والتسلية، لقد كانت بحثًا دؤوبًا شاقًّا.
لعبة اكتشفت قبل أن نتعرف إلى جاك ديريدا والتفكيكية، تتكوّن من فريقين، في كلّ فريق ثلاثة لاعبين أو أربعة. بدورها، تقسم الحارة إلى جهتين، شرقية وغربية، يفصل بينهما زقاق طويل. يغيب الفريقان برهة، كلّ في جهة، يمسك اللاعب كمشة من التراب ليشكل منها أكبر عدد من قباب صغيرة متراصّة في أيّ مكان لا يخطر في بال الفريق الآخر، تحت النباتات الشائكة، فوق حائط بعلو ثلاثة أمتار، أماكن يستحيل على الفريق الثاني أن يجدها، وعندما ينتهي أحد الفريقين يبدأ بالصراخ: "حويليكات، حويليكات"، ليتبادل الفريقان أماكنهم، ويبدؤون بتفكيك قباب الفريق الآخر، بل مسحها، بجرّة قدم، هكذا.
بعد دقائق يجتمع الفريقان في الزقاق-خط التّماس بين جهتي المعركة، يحصون عدد القباب غير المكتشفة لكلّ فريق، يقومون بعملية حسابية بسيطة، حاصل الطرح بينها، وبفارق قليل يتوّج الفريق الفائز بصفتي الإبداع والدهشة، والتنمّر أحيانًا (أتساءل دومًا عن السرّ في تفرّد الشمال والجنوب برسم خطوط التماس بين جهتي الشرق والغرب).
بشفّة متدليّة، وعينين تلوكان أطراف الصور -التي تمرّ خلال المرآة- من طفولة أغمضت فمها على مفردة "لعب"، أفتّش عن إطار لكلّ صورة من الطفولة، إطار يحميها من تلاعب السيميائيين في فكّ شيفراتها، يشغلهم عن إحصاء ضحكاتنا، وتموضع أجسادنا الطريّة حول دائرة مرسومة بالطباشير الملوّنة، في داخلها أسماء مدن، لم نرد أن تقع الحرب في أيٍّ منها، لكنّها وقعت.
أتوجّس خوفًا من فكرة أن أزجّ بالذاكرة في سباق مع الخَيال. أسمّي الذاكرة سلحفاة كي أجنّبها الحتف السريع، وأسمّي الخيال خيالًا.
أنا كاتب كسول يا سفيتلانا، أتمدّد في نصوص الآخرين، أشرب الشاي باردًا، أنظر إلى السماء وأهذي مثل ليلٍ طويل، وهذا الليل بقدر ما أحبّه أبغضه، وما من سبيل إليه. أريده مثل لائحة حروفيّة تشكيلية، ينساب فيها الحرف من يد الجوزاء إلى فم الفرات البعيد.
السماء قطارٌ قديمٌ
والشمسُ عينُ القطارِ الوحيدة
وهذا الغمامُ الكثيفُ دخانٌ
يولدُ عند المغيبِ حنينٌ
ينشجُ في مهده سِرْبُ حَمَامٍ
وتلمعُ في الليلِ عيونُ المسافر
أنا كاتب كسول يا سفيتلانا، أتمدّد في حقول الآخرين، أشرب الشاي باردًا، أنظرُ إلى السماء،
وأُداري عوسجةً (لا تقيد).