أبحرنا مساء السبت في عالم الموسيقى في بيت التباريس. فقد قدّم طلّاب "الماستر كلاس"، المنتسبون في غالبيّتهم الى معهد الكونسرفتوار الوطنيّ، أداءً أنيقاً على البيانو، بعد أن سنحت لهم الفرصة بمتابعة ورشة تدريبيّة لـ 4 أيام، مع الموسيقار العالميّ الكبير عبد الرحمن الباشا.
كان المشهد مغايراً لما يحدث في الخارج "المنزلق" في طبقات جحيم فرضته علينا الطبقة الحاكمة. كان الطلّاب أمس رافعة لبنان الحقيقيّ، الحيّ في قلوب ناسه.
هدف اللقاء هو في الحقيقة الثناء على دور الموسيقى والثقافة في جمع شملنا نحو الإنسانيّة الحقيقيّة.
نقطة ارتكاز السهرة كان عزف عبد الرحمن الباشا وزوجته السيدة سوزان فرميان عازفة التشيلو البلجيكيّة، مقطوعة للباشا أهداها لابنته عندما كانت صغيرة.
أدّى الثنائيّ هذه المقطوعة المفعمة بالأحاسيس والممزوجة بالأمل والرجاء والثقة بالغد. هي الحبّ اللامتناهي، الذي تكلّم به الباشا من خلال أصابعه المرنة مع ابنته، ملامساً عبر كلّ نوتة قصّة حبّه وفخره بها، ما جعل كلّ نوتة بوحاً خاصّاً بالعلاقة الوطيدة بين الأب وابنته.
رافقته زوجته سوزان فرميان على آلة التشيلو لتتآلف معه في هذه المقطوعة الموسيقيّة مع الحياة، وترشد معه الى دروب العلاقة بين الأب وابنته.
خصّ الباشا عزفاً لمقطوعتين تحيّة منه لوالده الراحل الكبير توفيق الباشا، بثّ من خلالها تجدّد اللقاء الروحيّ معه، شرّبها من أحاسيسه، التي روى فيها الجمهور بتفاعلات إيقاعيٍّة هي غاية من الروعة من خلال "بريلود" و أغان أندلسية.
في القسم الآخر من الأمسية، توالى على العزف الطلّاب، الذين كتبوا عبر عزفهم على آلة البيانو صفحات من كتاب موسيقى لم يصدر بعد، ليكون جزءاً من المناهج الدراسيّة لتلامذة لبنان، ليتعرّفوا من خلاله على هتاف خوري، جورج باز وعبد الرحمن الباشا وعباقرة عالميين كرخمانينوف وبيتهوفن وشوبان وشوبرت ودوبوسي...
أعطى الطلّاب خلال عزفهم من ذاتهم، أي جعلوا مشاعرهم منخرطة في المقطوعة الموسيقيّة، كما أوصاهم المعلّم عبد الرحمن الباشا.
توالى على العزف نقولا غندور مقدّماً "بريلود" رقم 1 لهتاف خوري بهدوء ملائكيّ عذب جدّاً، تدفّقت فصوله من خلال ذلك الإيقاع التوّاق الى غيوم الذاكرة.
جاء عزفه دعوة لنا للسكينة، للانفصال عن الواقع، ليطفو في عالم مقطوعة موسيقيّة لعبد الرحمن الباشا يحاكي فيها "المراهقة" بكثير من الحبّ والتآخي والأبوّة والقلق والفرح.
بدورها، توقّفت إليسا بعقليني عند "البريلود" 32 رقم 5 لرخمانينوف، التي سطعت موسيقاه في الصالة وتحوّلت كلّ نوتة الى رحيق "موسيقيّ" عابر بين الجمهور.
ناجى رخمانينوف القلب عند كلّ لمسة بيانو، وانعكس ذلك من خلال عزف لبعقليني، الذي تحوّل لدى كثيرين زخماً للبقاء والصمود في هذا العالم البائس.
بعض الجمهور اعتمد طوعاً إغلاق عيونهم عند سماع الموسيقى، ومنها لمقطوعة " الطفولة" لعبد الرحمن الباشا، الذي أعطانا فرصة للعودة الى عالم البراءة باحثين عن حلم ضائع في هذا الفراغ الموحش المحيط بنا. القصّة في هذه المقطوعة للباشا تصدع بحكايات بريئة بمعناها المعرفيّ، الذي نشتاق اليه كثيراً.
أعطى جوزف عبود من ذاته مقدّماً للجمهور سوناتا لبيتهوفن عن بريق القمر وأخرى لشوبان عن الثورة، حيث انعكس فيها غضب شباب لبنان الآتي وتوقهم للتغيير إيقاعاً صاخباً. عزف "الثورة" من وحي رفضه الشديد للخضوع للنمط الرافض للعنف الخاسر أمام التغيير والثورة.
تسلّل عزف إيلينا خوري في الصالة بلحن شوبرت، ويتلاقى مع دقّات القلب المتماوجة مع الحاضر، مع عزف مميز جدّاً تبعه عزفها لموسيقى من عالم جورج باز، من خلال مقطوعة "ليلة وردية"، تحوّل فيها ليلنا في هذه الأمسية الى شيء آخر، إيجابيّ في عتمة بيروتنا المنسيّة.
أمّا جواد حمداني، الذي لعب بحماس وشغف مقطوعتين لكلّ من كلود دو باسي وجورج باز، فقد عكس إرادة الشباب الطموح الذي يعشق العزق على البيانو دون أن تتوفّر له فرصة اقتناء بيانو محترف ليتمرّن عليه في مكان سكنه في مدينة النبطية. عزف دوباسي "بريلود" حملت عنوان "السير في الثلج"، كأنّ الموسيقى حملتنا الى شقّ طريق في الثلج قد تكون وعرة في الضباب، بتأنٍّ للمضي في الطريق ولو كانت وعرة وصعبة.
ختم السهرة إيمانويل جورج سبعلي الأصغر سنّاً، الذي عكس احترافاً واعداً من خلال عزفه مقطوعتين لشوبان ورخمانينوف.
يبقى سؤال عمّا إذا كان ثمّة من يسمع لهذه الطاقات الشبابيّة الواعدة ويعطيهم بعض الأمل في هذا الزمن الرديء، زمن المحاصصة والزبائنيّة واللاثقافة عند حكام هذا الزمن.