يوسف طراد
ليست الفرشاة ملك المواقيت، وليست ملكاً للرسّام، لكنّها ملكٌ للحدث؛ لذلك انعتقت الألوان من مخيّلة الفنّانة منى معوّض، لتلقى سجناً من نوع آخر، داخل إطارٍ حَبَسَ عاصفة هوجاء، اجتاحت الوطن العربيّ من المحيط إلى الخليج.
نهلت منى من لوحة الألوان كفاف أيّام الأوطان من الأتراح المتناثرة على امتداد الأمل بالحريّة. وسرقت من القدر ومضات لتلقي الضوء على مبانٍ هاربة في دروب موحشة، مليئة بالقلق المبهم. ولم تمنح الفرشاة فرصة الانعتاق من سلطان الحروب المتربّصة بأطفال غزّة، والعراق وسوريا والسودان ولبنان...
هل للخيال ارتجال المطر، أم هي قذائف "الفوسفور" قد بسطت أجنحتها المضيئة الحارقة في فضاء منقبض القلب حدوده إطار الرسم؟
أهو صهيل الريح يرافق شجن الفرشاة على إيقاع الهمجيّة بوجه طوفان حلم التحرير، أم أنّها غيوم هائمة بين أزمنة متهالكة، تتلاشى في رعشة البرق، أمام عنفوان عاصفة، لتمطر أسفاً على قطاع قُطعت عنه المياه؟
إنّه لحق الناظر إلى اللّوحة أن يطرح مفاهيم محدّدة عن ترجمة التباسات المشاعر في المشهد السياسي والميداني الحالي. فالعاصفة لم تقتلعه من دهشته، لأنّ الرسّامة أدخلته في قلب الإعصار. فقد رسمت ظلّ بؤس الواقع، من دون علمها بأنّها دوّنت مسار الظلم من وعد بلفور حتى طوفان الأقصى. واجتاحت عاصفة فرشاتها كلّ الوطن العربيّ، لكن قلب هذه العاصفة كان فلسطين المحتلّة.
من المعترف به أن عروق الجسد هي التي تنزف. لكنّ العجيبة هنا أنّ الأرواح الصاعدة إلى ربّها، وخلال عراكها مع شياطين الوقت، قد اصطبغت باللّون القاني من نزف العيون دموع الحسرات، وسالت حسرتها الحمراء، وروى دم الشهادة التراب.
أين أنت يا طير الشؤم؟ هل هربت من عاصفة هوجاء، أم أنّك تنتظر خارج الإطار، لتنقضّ على الأرواح، أم أنّك مشغول بقيادة المسيّرات المملوءة بالرعب؟ فها دموع حمامة السّلام قد اختلطت بدماء الأطفال والأطباء والممرضين، فسالت دماً في فضاء اللّوحة، وهربت الحمامة إلى جبل الزيتون، لكنّها لم تستطع انتزاع أيّ غصن من غصونه لقساوتها كفظاظة قلوب مالكيها.
لقد هربت الأرواح إلى ملاذ عاصفة لتتطهّر من رجس الواقع، فاسترشدت الصواب من ابتهالات صادحة في فضاء اللّوحة، من دون اكتراث بزئير مدفع أو صوت مجنزرة أو إغارة طائرة أو ولولة صاروخ.
فرّت الفرشاة من قفص الهمس، وباحت للربّ بتقاعس الكون عن ردع البراكين التي تنفث الحمم في الضلوع والقلوب والشوارع والمشافي. فكيف لناظر إلى لوحة "عاصفة" أن يرضخ لصقيع قلوب المقاتلين في ضيافة الجمر المتّقد.
جعلتنا منى معوّض نصغي إلى حوار شعيرات الفرشاة الذي لم يستطع ردع اليدين عن التحليق في السفوح؛ رهيب هذا المشهد الملتبس على تخوم الألم واليأس، حيث انجرف الجميع في طوفان وعاصفة، ولم يبق أحد ليستمع إلى قرقعة "السيوف الحديديّة".