نبيل مملوك
في مجموعته الشعريّة الحديثة "رجل للبيع يهزأ بالأبد يليه مصرع لقمان" الصادرة عن دار رياض الريّس للكتب والنّشر يقدّم شبيب الأمين نصوصاً شعريّة متفرّقة تحاول الخروج على التصويرية، وتتوغّل أكثر باللحظة وارتباط الشخوص بها، لا سيّما صديقه الناشط والمترجم الشهيد لقمان سليم (1962 -2021)، لتكون (المجموعة) إعادة لصياغة العالم ما قبل لقمان عبر الترميز الاجتماعي والديني من جهة، والدراميّة المرتبطة بموت لقمان والمكوّن المجتمعي من جهة ثانية.
الترميز مدخلًا لهروب لاواعٍ من القيم
برز لدى النصوص التي قدّمها شبيب الأمين مستوى معجميّ لافت يرتبط بالمتعلّقات الدينيّة والجنوبيّة. وقد كانت تراكيب هذا المعجم واضحة ومباشرة، كأنّ الشاعر يتوسّل توثيق اللحظة أو تصويرها وفقًا لأدبيّات إليوت "أنا رضوان يا الله/ أضجرني العالم/ وها أنا أنهدم كمئذنة"(ص. 43)، "يدجّنها في مسجد/ يدفعها مثل شاحنة هائلة في اتّجاهات شتّى..."(ص.50). يشكّل هذا الارتباط اللفظي بالمتعلّقات الدينيّة خطابًا واعيًا متمرّدًا على الرهبة منها، فضلًا عن محاولة ربطها التوثيقيّ التصويري بالأشخاص الذين شكّلوا موضوعة القصيدة. لكن هذا التعيين أو الوضوح في الإفصاح سرعان ما كشف عن رغبة لاواعية في هدم هذه المتعلّقات أو محوها من خلالها؛ وهذه الخلاصة سرعان ما نربطها بعنوان المجموعة "رجل يهزأ بالأبد" أي رجل يرفض أن يكون أسيرها إلى الأبد، مما يضعنا أمام مفهوم تيّار الوعي الذي حمله إبداعيًّا ويليام فوكنر وعزرا باوند وسواهما، ممّا يجعل السلوك الشعري سلوكًا حادًّا يقلّص دور اللغة على حساب العاطفة، أي أنّ الشاعر دخل في نفق الرغبة في البوح والتمرد على الألفاظ بدلًا من الحفاظ على مساواة عادلة بين عناصر العمل الأدبي ككلّ، خصوصًا عنصري اللغة والعاطفة اللذين عوَّضا غياب التخييل على الأقلّ في القسم الأوّل من المجموعة.
والحقّ أنّ الأمين الذي صوّر أفكارًا وحوارات داخليّة تشكّل شيفرات يتشاركها أو يتذّكر من خلالها أشخاصًا مثل ديما الجندي، حسين نجدي ورضوان الأمين وغيرهم، وأمكنة كشارع بلس وقريته الصوّانة، خرج بذلك على مبدأ كتابة اللحظات المستدامة التي اشتهر بها شعراء كيانيس ريتسوس، لويس غليك غربيًا، وسعدي يوسف وأمجد ناصر عربيًّا؛ وبالتالي فنحن أمام محاولة انفعاليّة عنيفة بشعريّتها على صعيد الخارجي (نفسيًّا واجتماعيًّا)، وثابتة لغويًّا وأسلوبيًا، ممّا وضعنا أمام مباشرة ملغّفة برموز تجعل التلقّي سهلًا وإيجابيًّا، وأقلّ تأثيرًا ممّا نسجه القسم الثاني من المجموعة.
مصرع لقمان: ما بين المحو وإعادة الكتابة
بدأ شبيب الأمين كتابة الفصل الأخير من حياة لقمان سليم صديقه مستعينًا بمبدأ الجزء الذي يصنع الكلّ، فوزّع التفاصيل المعروفة واتبعها بالانطباع غير المألوف، "في ليل/ داخل حقلٍ تحيطه شجرات حور لم يشعر برصاصة تخترقه من خلف...ارتطم بفكرة أضاف إليها أجنحةً"(ص.77-78 ) يعيدنا هذا المشهد إلى حدث الاغتيال المعروف. وقد لجأ الأمين إلى محو القصّة الباردة بأسلوبها التواصليّ وإعادة كتابتها بأسلوبٍ إبداعيّ انطباعيّ ترك أثرًا تخييليًّا لدى المتلقّي، خصوصًا حين كان المركّب الخبريّ يتضمن الله وحقيقة ما طلبه لقمان "إلّا أنّه، يا الله/ أصدر أمرًا صارمًا بإحراق الجثّة" (ص.79)، ولم تكن التراجيديا التي اعتنقها لقمان سليم مجرد مصير يُنهي حياته فيه قتلًا على يد طرف لطالما عارضه لقمان إلّا منبرًا ليختصر بلغة لاواعية كلّ ما أضمره منذ حادثة الاغتيال التي وقعت بعد مغادرة لقمان سليم بيت الشاعر، وقد شاء الأمين أن يهاود هذا الطرف قبل اتهامه "صديقك دافيد شينكر/ أصدقائي في حزب الله" (ص.75 )، خصوصًا أنّ الشعر لم يتّخذ طابع السرد بل طابع البوح والمباشرة والتصوير.
أمّا عن إعادة الكتابة، فقد ختم شبيب الأمين بسطرٍ شعريّ يُعطي الموقف الكامل لكاتبه حول الدولة التي وصفها بالعاق "دمك لقمان دم الجرائم الكاملة" ( ص.94 )، في اشارة واضحة إلى ما حاول كشفه لقمان ودفع الدم ثمنه.
لم تكن عمليّة المكاشفة في صالح اللغة، فتراوحت الأسطر بين تعيينيّة معياريّة تجنح نحو لغة المذكّرات والتأريخ، وبين لغة تضمينيّة تنسج التخييل، وتضفي التأثّر على عمليّة التلقّي "...تاركًا صديقه "نوح" بعد رحلة نجاة ناجحة يختنق بمفرده..." (ص 89 )، "اجتاحوا صحراء أعمارنا..."(ص.94).
لم تكن مجموعة شبيب الأمين إلا بياناً يحاول ضبط إيقاع بوحه بين السرد اللحظويّ والتمرّد على قراءة سابقة لحاضره، وقد كان الترميز أداة خدمته في تجنّب المباشرة، وخانته حين أراد لمصرع لقمان أن يكون محض اعتراض.