ريشار شمعون
"ما رأت زينة وما لم ترَ" عنوان الرواية الصادرة أخيرًا عن "دار الساقي" للكاتب رشيد الضعيف. زينة، بطلة الرواية، ترمّلت باكرًا، فقادتها لقمة الخبز من الضيعة إلى بيروت لخدمة عائلة الأستاذ فيصل المتكونة منه ومن زوجته الست سوسن ومن وحيدهما جاد المهاجر إلى الولايات المتحدة. زمنيّاً، تتمركز أحداث الرواية في ثلاث ساعات (بين الرابعة بعد الظهر والسابعة) من يومٍ واحد هو يوم الثلاثاء ٤ آب، اليوم الأسطوري الذي حصل فيه تفجير بيروت. ثمّ تتقدّم أو تتراجع عن تمركزها الزمني هذا قليلاً، على شكل قفزات خاطفة، مرةً إلى الخلف ومرّة إلى الأمام.
بيروت، اختارها الروائي مسرحًا وحيدًا لتلكَ الأحداث؛ فيها بدأت تتوارد إلى ذهن زينة خواطر غريبة وتخيّلات غامضة مصدرها بحر بيروت، هذا البحر الذي سبق له أن ابتلعَ زوجها. "التوجّس" كان الخيمة الغريبة الوحيدة لزينة حيث حصلت معها عدة حوادث مبهمة: أوقعت فنجان الست سوسن فانكسر (انكسر الشرّ… قالت سوسن)، صدمت بمقدّمة سيارتها مؤخرة سيارة أجرة (الله يسترنا من هالنهار… ردّدت زينة)، شقيقتها ماري أوقعت تمثال السيدة العذراء فتحطّم، فتمتمت: الله يعطينا خير هالنهار… تلكَ الحوادث معطوفةً على التخيّلات الغرائبية ألّفت "نذير شؤم" تكثّف ليترجم نفسه بـ"الانفجار"، عندما "اهتزّ كوكبُ الأرض قاطبةً" (ص ٥٣). منذ تلك اللحظة "رأت زينة ولم ترَ".
على لسان زينة الرائية يروي رشيد الضعيف سلسلة من المشاهد المرعبة. سلسلة غير مترابطة ولا متصلة بل متزامنة، فقط متزامنة، يجمعها المنشأ، حيث الهيستيريا فردية وجماعية، ذاتية وغيريّة، داخلية وخارجية… ويحجب مشاهد أخرى لم ترها زينة لأنها "لم تُدرك أن الكون انفجر" (ص٥٥)، وربما لأنّ والدة الطفل المذبوح وحدها من شاهد رأسه يتدحرج… "شاهدت رأسًا يهوي فوق المدينة"، أو لأن "المنطقة كانت أشبه بفوضى ما قبل إنشاء المنطق" (ص ٥٨). إنها، إذن، "سياحة" في اللامعقول الملموس والمحسوس لكن غير المفهوم، وقد نجحَ الروائي في تصويره وبثّه عبرَ عينٍ أمينة، وقلمٍ رهنَ نفسه لكتابة الفاجعة. غريب، كيف أنّ تفجير المدينة العامّ والشامل قد حصلَ بصورة فردية. لقد كانت بيروت، لكل فرد، مدينتَه وتفجيرَه. كانت بيروت بيروتات… كانت كما كانت منذ أن كانت: مدينة تخصّ الجميع، ولا تختصّ بأحدٍ في ذاته. هكذا شاهدها رشيد الضعيف، هكذا صوّرها وبكاها وأبكانا.
أمّا عن خاتمة الرواية فقد كانت بداية لا نهاية. كانت صعودًا إلى المنتهى (ص ٩٣)، رقادًا في "الذكرى"، و"الكوسى بلبن" (ص ١٠٧)، دخولًا في العبث، حيث "يُظهر التلفزيون فتىً يهمس في أذن صديقه: يا ريت كان الانفجار بالشتويّة كنّا ربحنا يوم عطلة" (ص ١٠٩)، واستنقاعاً في ما يمكن تسميته بالفشل الإنساني والخيبة والمرارة، ويأسًا من تحقيق العدالة عندما نرى زوج الضحية "الأستاذ فيصل يبتسم ابتسامة سخرية من القدر، ثمّ يغفو…".