عمر سعيد
ليست الكتابة عضلة إرادية في المبدع، إنّها كالقلب. عضلة لا إرادية. ومن يدري؟ ربّما كانت هي القلب نفسه!
"السّادسة والرّبع" ديوان لجنان خشوف، أصدرته عن دار نلسن، ووقّعته في معرض الكتاب العربي الـ٦٥ في بيروت.
ديوان السّادسة والرّبع يتضمّن إهداءً، طمأنت فيه محتكري الشّعر أنّه ليس بشعر. واثنان وثلاثون نصاً لا أعرف كيف يمكن لشاعرة أن تكون موظفة تستهلكها التّعليمات والمهام، وأم لولدين تتابعهما من الصّباح إلى المساء، وفي اللعب والدراسة والمرض والنظافة والإطعام، أن تكتب الشّعر وتتنقّل بين وظيفتها البيت والعمل، وأن تكنس، وتطبخ، وتجلي، وتحبّ أطفالها وجسدها ونفسها والآخر، ولا تفشل في كتابة الشّعر!
إنها جنان خشوف الّتي تقول في مطلع قصيدتها "صلّيت وصلّيت وصلّيت و...":
"كنت ماء جارياً أغسل به ذنوب الأواني"، مشيرة في ذلك إلى طهارة الماء الضّرورية لوعاء ولغ فيه كلب.
تطرح جنان وسط كلّ تلك المعمعة أزمة فهم الذّات
"ضجيجي يتكلّم لغة أجنبية"
تلك الأزمة النّاتجة عن سطحية الضّجيج الّذي يحيط بالإنسان، ويتولّد عن يوميّاته، فيجعله لا مرئياً، يعيش بقصص، توهمه أنّه بلا قصص.
"مسكينة جدّتي، لا تعرف أنّ غير المرئييّن لا قصص لهم"
واللامرئيين هنا هم المهمّشون الّذين تدوسهم عجلات الحياة دون مكابح.
جنان خشوف شاعرة لا تكتب بإرادتها.
تنزف القصائد من ثقوب روحها رغماً عنها، من دون أن تتألّم؛ فحزنها بلا لغة تمكن صاحبه من التّواصل معه، وفهمه. إنّه حزن أبكم.
"الحزن لا لغة له".
قد يظنّ القارىء لديوان السّادسة والرّبع أنّ الشّاعرة امرأة تنشد الفرار من الرّتابة والاستنقاع، غير أنّها شاعرة تتقن الإقامة والتّجوال في وحول الواقع والملل والضّجر إتقاناً يمكنها من الاشتياق للآخر في ما حولها من أشياء ومكوّنات.
وهي على الرّغم من كلّ ذلك تغوص في الواقعيّة الّتي تدلّها إلى منابت الأحلام.
"لو كان الغيم ينمو على الشّجر".
وهي ترى في الغيوم بيتها الّذي ما زالت تدّخر لشرائه.
في قصيدتها القطن عدو الغيوم.
لست أدري إن كان الزّمن قد توقّف بجنان خشوف عند السّادسة والرّبع، على الرّغم من إيجابيّة حرف العطف الـ"و" بين السّادسة والرّبع، على عكس سلبيّة الـ"إلّا" لو كان العنوان السّادسة إلّا ربع، وليست الزّيادة كالنّقصان في الإبداع.
فالواو عطف، وسعي إلى الاتصال، واستمرار الزّمن والحالة والفعل، حين سمّرها الحبّ، وأوقف الحركة والانتقال والتّبدل فيها وفي محيطها.
"حصل أن حبّك سمّرني"
إلّا أنّه توقّفٌ ولّد فرادة شعريّة، واختلق تميّزاً غرائبياً
"أنا البندورة محسوبة على الفاكهة قصراً".
والحالة في هذه العبارة تتولّد من "قصراً"؛ فعلى الرّغم من ملوحة التّجربة تندرج الحالة النّفسية ضمن لائحة اتساع الوقت واسترخائه.
فالبندورة ذلك المكوّن الأساسي في أغلب المطهوّات، محسوبة على قصراً على أطعمة التّرفيه والتّسلية، وهو تعبير عن إنكار الذّات والتّضحية وطمس كلّ المرارات أمام مظاهر الواقع.
ليست جنان خشوف شاعرة عاديّة تسعى إلى التّراكيب والجمل لأجل إنشاء مبنى ومعنى.
إنّها شاعرة تسكنها الطّبيعة الصّامتة بشكل خلّاق، ممّا يجعلها تعرف كيف توظّف الصّورة والمفردة بشكل يكشف عن دائرية الحياة فينا "أنا أرجوحة من دولاب"
دولاب سبق أن استهلكته الطّرقات والرّواح والمجيء بشكل دائري، من دون أن تتلفه إلى مستوى الخروج من الخدمة، بل إلى مستوى التدوير، وتوليد الأرجحة والاهتزاز، وهي الّتي استنكرت إعادة تدوير العلاقات "لست لإعادة التّدوير".
جنان خشوف لا تكتب الشّعر، بل تستخرجه من تحت أغشية قلبها وألحية روحها، ومن محارات الحبّ فيها بمبضع دقيق
"سلبتني الكورونا رائحة الشّم، والخبيثة أبقت رائحتك".
تحتاج تربية التّعابير العميقة والقصائد المؤثّرة إلى انتظار أطول من انتظار تكوّن اللآلىء في المحار، وجنان خشّوف أكثر من اختبر هذا النّوع من الانتظار.
"أنا صاحبة أطول انتظار مركون"
انتظار كلّفها الكثير إلى حدّ قول:
"أقول لخصري لا تتمدّد، وأقول لقلبي لا تنبح ليلاً".
انتظار سلبها كلّ قدرة على الهدوء والاسترخاء، مما أدّى إلى تقلّص الخصر، وتولّد رفض تمدّده.
انتظار حوّل القلب إلى كلب ينبح ليلاً كلّما لاح خيال أو طيف أو شبح مَن نحب.
السّادسة والرّبع ديوان ليس كأيّ ديوان شعري. إنه حالة من إعادة اكتشاف عوالمنا الجوّانيّة من جديد.