يوسف طراد
هل للعتابا والميجانا فلسفة؟ وما هي هذه الفلسفة التي تكمن وراء هذا الزجل اللّبناني؟
لا شكّ في أنّ كلّ عمل فنيّ أو أدبيّ يَفترِض فلسفة مسبقة، أو خطّة فكرية تؤدّي إلى إنجاز هذا العمل، وتحقيقه إبداعيّاً وفكريّاً؛ ويمكن أن ينبثق هذا العمل عن عفويّة تجارب ذاتيّة، كما حصل مع الشّاعر قزحيا ساسين، قبل إصداره ديوان "متَلَّت" الّذي يحوي ١٣٦ قصيدة "عتابا وميجانا". وظهر هذا الأمر جليّاً في الإهداء: "لقد ولّعني صديقي أنطوان بالْـ"عتابا" وأنا ابن أربع عشرة سنة..."وأنطوان هو المرحوم الشّاعر "أنطوان مالك طوق".
انساق هذا الديوان الفنيّ "متَلَّت" وراء حتمية وجود اللّبنانيّ، وتعلّقه بأرضه. فقد عكس ظروفاً وأوضاعاً اجتماعيّة وسيكولوجيّة عامة، على اعتبار أنّ الوعي عند سكّان الأرياف هو المقياس المطلق الذي يَفترِض التفتيش عن عناصر فنيّة ترافقه في مسيرته الصعبة، بصعوبة مسالك جبال لبنان.
لقد كمنت فلسفة "العتابا والميجانا" وراء حياة الأرياف واندفاعها الصاخب بين الحلم والواقع، وواكبت اللّبناني في مناسبات الأفراح والأتراح؛ وإنّنا لا نستطيع أن نحدّد فلسفة هذا النمط من الشعر بكلمة أو عبارة واحدة، لأنّه كان إيقاعاً لحضارة، وتفجيراً لرموزها الإنسانيّة، وتجلّياً واضحاً للمواهب، وفنّاً محبّباً لحركة حياة الريف وجهاد سكّانه الصارخ العنيف للاستمرار.
لم يقتصر هذا الديوان على شكل القصيدة التي نُظمت عفويًا، من دون أن يعود الشّاعر إلى تفعيلات بحور الخليل. ويُقال إنّ "العتابا" يقابلها البحر الوافر، فقد أخذ هذا الديوان صفة هذا البحر لوفرة أبيات "العتابا" فيه التي تخطّت المئة. وكان السّماع هو ضابط إيقاعها الوحيد وليست التفعيلات؛ بل امتدّ إلى المضمون، وتغيّرت الموضوعات في الشّعر بين صفحة وأخرى، وظهرت براعة الشّاعر في الدمج بين عدّة عناصر في القصيدة الواحدة كما ورد في "الصفحة ١٨" من هذا الديوان:
"لوَّز لَوِزنا والجَوز جوَّز
وعيَّد آب... إبنو الشَّمس جوَّز
وما دام الحُبّ لمّ الشَّمل جوَّز
تَعي نْمِزّ الدِّني ونحنا قراب".
وكان تفسيرًا لقافية هذه القصيدة في حاشية الصفحة على الشكل الآتي: "١_ نَضِج. ٢_ زوَّج. ٣_ جَعَلَهُ جائزاً.
هنا يظهر الدمج بوضوح بين الشّجر والثمر ومواقيت نضجه، وتشبيهه هذا النضج باكتمال جسد الحبيبة؛ والأعياد والأفراح ومواقيتها؛ والحبّ والقرب؛ والغزل؛ والمنادمة مع احتساء نوعٍ مجازيٍّ مميّزٍ من الخمر. كلّ ذلك في إطار فنّيّ جميل محبّب خفيف على السمع، يأخذ السامع إلى دنيا الطرب، طالباً المزيد من هذا النوع من الشعر.
ألّح قزحيا ساسين في قصائده على ضرورة معانقة الشعر للوجود. فانفتح شعره على معضلات العصر، وعلى المطلق الّذي لا يُمكن تحقيقه إلّا بالاتّجاه المباشر نحو الحنين الأبديّ الكامن في كلّ قصيدة "عتابا وميجانا" من هذا الديوان. فاصطدامه بالمطلق أدّى إلى شطحات صوفيّة، أعادتنا إلى التراث المنسيّ، وسلختنا عن جميع معطيات الواقع الشعريّ الحاليّ الّذي نقرأه على جداريّات وسائل التواصل الاجتماعيّ.
إنّ معركتك الأساسية الضارية يا قزحيا ساسين هي مواجهتك لتمزيق ألوان الشعر التراثيّ الجميل على أرض واقع لا يأبه للتراث، وانكماش الشاعريّة الأصيلة والأحلام الشعريّة المذهّبة إلى الكمال الذاتيّ من أمام انفلات يؤدّي إلى محاولة لمواجهة المطلق عند الشعراء الأصيلين، وقد تحطّم هذا المطلق موضوعياً مع النشر العشوائي على صفحات الهواتف الذكيّة.
لهذا الديوان أهميّة إنسانيّة، تكمن في عودة ريعه إلى حملة "#كتاب_وقمح" التي تُعنى بتأمين علاج لمرضى السرطان، والقصور الكلويّ، الّذين لا يملكون ثمن العلاج.