شربل شربل
لا شكّ في أنّ اختيار العنوان فنٌّ، فهو باب النصّ، والدليل إلى الهدف الذي يرمي إليه الكاتب من خلاله. ومن الصيغ المعتمدة في العنونة صيغةُ الاستفهام؛ فهي تثير فضول القارئ، وتدفعه إلى قراءة النصّ، عساه يتوصّل إلى جواب شافٍ.
وقد عمد الأستاذ سهيل مطر إلى الصيغة المذكورة في عنونة كتابه الذي صدر أخيراً (منشورات منتدى شاعر الكورة الخضراء، عبدالله شحاده الثقافيّ) فقال: "نزار… أين أنت؟"، وأشفع سؤاله بتعبير تعريفيّ، هو: "مأساة إنسانيّة نادرة"؛ وبذلك عزّز إثارة الفضول بإضفاء صفة الندرة على المأساة التي يروي فصولها.
أمّا صورة الغلاف فتجمع طريح الفراش المدعو "نزار" والمؤلّف الأستاذ سهيل مطر، الذي يمعن النظر في وجه الضحيّة، محاولاً سبر أغواره لكشف سرّ مأساته. فهل يتمكّن من ذلك؟
الجواب… بعد الغوص في المأساة.
يبدأ الكتاب بِـ"مقدّمة روحيّة" بقلم الأب أغناطيوس داغر المحترم.
تعكس هذه المقدّمة وجهة نظر الكنيسة إلى الحياة وقيمة الحياة، وأخلاقيّات الطبّ. وهي، في آنٍ معاً، شهادة من واكب وشاهد، من قرب، فصول هذه المأساة، منذ بدايتها.
والمقدّمة الثانية "مقدّمة طبّيّة" بقلم الدكتور كمال كلّاب الذي عرف، بحكم اختصاصه، حالات كثيرة من فقدان الوعي والغيبوبة، ومع ذلك يقول: "حيرة رهيبة، يعجز العلم عن الإجابة عنها حتّى اليوم. إنّه حقّاً موضوع حرج يدعو الطبيب للتواضع وقبول الجهل البشريّ المتعلّق باليقَظة والإدراك، وما بينهما.
تفسير اليقظة والإدراك، هنا صلب الموضوع". (ص:12)
وينهي الدكتور كلّاب مقدّمته بشكر نزار وعائلته، وشكر الأستاذ سهيل، الذي طرح تساؤلات، ورغب في فتح آفاق جديدة لاستكشافها… منهياً بالقول: أو ليس هذا دور المفكّر؟
لم أفاجأ بما قاله الدكتور كلّاب، فمن الطبيعيّ أن يتصدّى الأستاذ سهيل لهذه القضيّة، بكلّ ما أوتيَ من ثقافة وخبرة وعمق، ولباقةٍ لا تفارق نصّاً كتبه…
وبعد المقدّمتين "رسالة من وسيم إلى أخيه نزار"، وقد جاءت حافلةً بكلّ معاني الأخوّة، والتضحية، والإيمان، والإنسانيّة في أرقى مراتبها. وتعزّزت هذه المعاني من خلال شخصيّة وسيم، كما ظهرت على مدى هذه المأساة.
نصل إلى الصفحة الثالثة والعشرين، وعنوانها " نزار"، حيث يضعنا الكاتب في الإطار الزمنيّ للمأساة التي بدأت في ١٦ أيلول ١٩٩١، وبلغت سنتها الثانية والثلاثين، وقد أنهاها بقوله: "دعوا نبضات القلب تتكلّم، ولنصمت".
تستغرق الحكاية المزمنة حوالي مئةٍ وأربعين صفحةً، قسّمها الكاتب إلى اثنين وثلاثين فصلاً، وأنهاها بخاتمة.
في الفصول الأولى سردٌ لا بدّ منه لوضع المأساة، وهي حقيقيّة، في إطارها الواقعيّ وتسلسل أحداثها، وصولاً إلى الحالة المستدامة التي استقرّ عليها " الضحيّة" نزار، الذي أصيب بطلق ناريّ من بندقيّته، عن طريق الخطأ. وهي حادثة مألوفة، إلّا أنّ تطوّر حالة المصاب وصولاً إلى الغيبوبة الطويلة هو المأساة الإنسانيّة النادرة.
وهذا التدرّج في العرض هدفه زيادة التوضيح، والتمهيد لطرح مجموعة من الأسئلة الفلسفيّة التي تعكس القلق الوجوديّ الراسخ في نفس الإنسان، وتساؤلاته المشروعة عن حقيقة وجوده وجوهره، وأسئلته اللاهوتيّة الإيمانيّة العميقة، في محاولة لفكّ اللغز المحيّر. وقد أخذت التساؤلات ما تستحقّه من غوص على المعاني الحقيقيّة، وصولاً إلى طرح السؤال عن دور المسيح والقدّيسين في حياة المؤمنين، وعن معنى القدَر وإرادة الله، والحكمة من ترك الإنسان عالقاً ما بين الحياة والموت. وفي كلّ ذلك، ظلّ التعبير على بساطته الأنيقة التي ميزّت أسلوب الكاتب في مجمل ما نقرأه من نتاجه الثرّ. وقد أحسن التوغّل في حنايا النفس الإنسانيّة لكشف أعماقها، وخصّص فصولاً للوصف الداخليّ المتخيّل. ففي الفصل الثاني وصفَ ما يعتمل في نفس الأمّ، روز، حتّى وصولها إلى المستشفى. وفي الثالث وصف ذكرياتها عن يوم مقتل زوجها، جرجس، وصفاً حيّاً متحرّكاً…وفي الرابع يضع على لسان وسيم وصفاً لأخيه نزار. وفي الفصل الخامس عشر اختصر الكثير من السنوات لعدم تكرار الحديث عن الأيّام التي تتشابه من دون إحراز تقدّم… وفي السادس عشر يتوغّل في نفسيّة نزار المقاتل، ويتخيّل أنّه، في غيبوبته، يستذكر ما مرّ معه أيّام القتال… وفي الثامن عشر يتحدّث عن دخول بومة سوداء إلى غرفة نزار في تنّورين فنتوهّم أنّها ستكون نذير شؤم، وأنّ نزار سيسلم الروح، قريبًا، إلّا أنّ ذلك لم يحصل… وفي الفصل العشرين ينقل الكاتب مناجاة وسيم التأمّليّة الدينيّة. وفي الثاني والعشرين يلتفت الكاتب إلى مقابلة حالة نزار بحالة شوماخر… وفي السابع والعشرين يطرح وسيم على الكاتب سؤالاً عن سبب اهتمامه بقصّة نزار، وهو ليس من رفقائه أو أقاربه أو مجايليه…
وجاء جواب الكاتب: "أريد أن أعرف أين هو؟". وهو السؤال الذي توجّه به الكاتب إلى نزار في العنوان: "نزار… أين أنت؟".
وفي الفصل الأخير يقول الكاتب: هذا الرجل يتحدّى الموت…
أمّا الخاتمة فأكّد فيها الكاتب أن لا أحد يجيب عن السؤال المركزيّ: "أين هو نزار؟". وفيها يتذكّر، والأصح أن أقول يذكر، لينا الصبيّة الحلوة، الضحكة الراقية، التي شجّعته على كتابة قصّة نزار، والتي خطفها قرصان كورونا وتركه وحيداً!
وبعد، يخطئ من يظنّ، بعد قراءة الفصول الأولى، أنّ دور الكاتب سيقتصر على تحرير تقرير طويل عن معاناة نزار، ومرافقة عائلته في مواكبته باهتمام متواصل، ونقل مواقف الأطبّاء والممرّضات، وما شابه. أمّا من يتابع القراءة، وينعم النظر، ويتمعّن في ما يقرأه، فيتأكّد له أنّ الكاتب أعمل خياله، واستخدم ثقافته العميقة وخبرته الواسعة في سبر أغوار النفس الإنسانيّة، لإلباس نصّه لباسًا فنّيّاً راقياً، وتعزيز قيمته الإنسانيّة المميّزة.
وختاماً، هذا كتاب أدبيّ، يجسّد مأساة نادرة بأسلوب مشوّق ومضمون إنسانيّ عميق، وراقٍ. قراءته ممتعة، وتترك في نفس القارئ جملةً من الأسئلة تتّصل بجوهر وجوده. ولئن بقي السؤال، العنوان، من دون إجابة، فهذا لا يعيب الكتاب في شيء. فمن ذا الذي يستطيع فكّ هذا اللغز وما يشبهه من ألغاز فلسفيّة وجوديّة؟ فلنتذكّر معاً ما قاله سليم حيدر في قصيدته "سراب"، التي أهداها لروح المعرّي في ذكراه الألفيّة، حيث قال:
هلّا أجبتم يا أهيل الحجى
ما الروحُ؟ هل يحيا بها الجلمدُ؟
ما الذاتُ؟ ما الأقدارُ؟ ما المبتدا؟
ما المنتهى؟ ما المهدُ؟ ما المَلْحَدُ؟
ويخاطب المعرّي قائلاً:
والعقلُ في قدرته عاجزٌ
عن فهم دنياه كما تعهدُ…