رياض بيدس
خرج مسرعاً من الشقة الكبيرة التي كانت تشبه "عقداً" فلسطينياً. زوجته اختارتها لكي يشعر بأنه في البيت، لكن رغم كل الجهود الطيبة المبذولة لم يشعر بأنه في البيت.
كان الطقس جيداً، مع نسمة عليلة من الهواء الطريّ. كاد يستدير في مكانه لأنه نسي للحظات المكان الذي يقصده! وكمن يتذكّر فجأة، أجاب نفسه بنفسه أنه تقريباً يتذكّر، يمشي فيه. هذا إن لم يُغيّر رأيه ويأخذ القطار إلى فيينا. أسرع في سيره، وتدريجياً بدأ يزداد نشاطاً ويمتلئ سعادة. إنها ليست بلاده، ولن تكون، مهما عاش فيها. مع ذلك هو يشعر بالسعادة.
كان يغزّ السير في الشارع الصغير إلى جانب كروم العنب، التي على مقربة منها يشعر بأنه في بلاده. يتساءل: لماذا يبحث دائماً عن أمكنة تشبه الأمكنة والأشجار والزهور في بلاده؟! في باريس، كان الأمر أخفّ وطأة، أما هنا، في النمسا، وفي القرية، فيزداد لهيب الشوق إلى بلاده. يريد في النمسا بلاداً شبيهة ببلاده. هل هو الحنين؟! ربما أكثر. ففي مكان مرتفع في منطقة هيتلدورف يرى شيئاً شبيهاً بحيفا، مع أنه لا بحر في النمسا. لكن المكان من الأعالي يبدو كمقطع من فيينا ويُشبه حيفا، عند البحيرة الكبيرة التي يسافرون إليها صيفاً.
يغلق على نفسه باب الذكريات الكثيرة، ويغزّ السير نحو كروم العنب. هذا الكرم ماذا يشبه في البلاد؟ يشبه بعض كروم الدوالي في بعض مناطق الجليل. وماذا عن أشجار الزيتون؟ هل يوجد أيّ منها في النمسا؟ يجيب نفسه بنفسه: لا يوجد. من غير المعقول أن يكون في النمسا، بلد الثلج، أي زيتون، مستحيل!
يقترب من الكرم الجميل. عناقيد العنب الناضجة تتدلّى من الدوالي المقصوصة على نحو مرتّب جدّاً. في الممشى بين كرمين ثمة شارع مسفلت يسير عليه هواة المشي، بعضهم مع كلاب. ينظر إليه بعضهم بشيء من التردّد. النمساويون باردون ومحافظون. لو كان معه كلب لربما انفتح مجال للحديث والأخذ والعطاء، خاصّة مع النساء الجميلات، لكنّه لا يحبّ أن يُربّي كلباً في البيت.
اقترب من الكرم. التربة محروثة. من المسموح أن يقطف عنقوداً واحداً ويأكله، لا أكثر. الآن لا يريد. يرفع رأسه وينظر إلى الأعلى: غابة من أشجار السرو والصنوبر، ثمّ غيمة عالية بيضاء. لا يشعر بأيّة رغبة في السير نحو الجبل والغابة. بعد قليل يسقط الظلام. يزداد الحنين إلى باريس والبلاد. في الجليل تملّ أحياناً من كلّ ما فيه عندما تكون فيه، هنا يستعر الحنين، ويزداد.
صاحب الحقل يقود تراكتوره، يشوّح له، ويبتعد. يتأمّل كلّ ما في المكان، ثم يبدأ بالرجوع، ورأسه مليء بحقول العنب والقرية الصغيرة الصغيرة التي يعيش فيها مع زوجته النمساوية. يتذكّر كروم العنب في الفريديس ودير اللطرون وبحيرة طبريا وشيء من حيفا. لكنه يمضي ولا يلتفت إلى الوراء.