هل رسم حبيب ياغي لوحة "التلفريك"، بريشة نسرٍ سقطت من جانحه فوق غصن شجرة متغاوية على القمّة، أو لملمت الموهبة أوراق الجمال من خياله، وطبعتها على قماشة، فأصبح الناظر إليها أسير الفضاء السّاحر؟
علّق الرسّام قاطرات المصعد على حبال الريح، فامتدّت بينها وبين الغابة سحابة عشق خطفت الركّاب من دوّامة اللّذة اللحظويّة، وعانقت أرواحهم مغامرة امتشقت حبل الخيال بغنج ودلال. فبان الحبّ طيف دهشة، يؤرق العين برسم عشّاق داخل قاطرة معلّقة بين الأرض والسّماء، ويغدق على القلب ملكوت السّكينة. وتسير القاطرة بلهوٍ بريء أمام الناظرين، حاملة بهجة المحبّين، ويُطيلون النظر، إلى أن يتهادى إلى آذانهم صمت قبلة يَدخل المشاعر المكبوتة، في تراب القلوب المشلّعة.
هل نزهة "التلفريك" هي ترتيب للوهلة في سلّة معلّقة، تتأرجح، وتسير في مسارٍ واحدٍ رغم اِتّساع الفضاء؟ وهل بعثرة الألوان عند ياغي استحكمت بتفاصيل الهلع قبل العطل في نظام الدفع، فتحوّلت السّحابة ضباباً آتياً من جنوب اللّوحة والجبل، وانقشع بعد أن تشبّع من بركة سيدة الصرح لخلاص العالقين والمنقذين، وبانت القاطرات بوضوح، وظهرت عليها أعلام الوطن مفتخرة بجهود رجالات الإنقاذ الميامين؟.
ويسأل الناظر إلى اللّوحة: هل هو أمام باب الخيال، أو عند أعتاب السّماء؟. أوليس حلم الصعود إلى سيدة لبنان فوق عبق الأدواح دهشة للعباد، وللشمس كي تغيب فرحة وراء فضاء أجمل خليج؟
وتسير القاطرات بالتتابع، كأنّها في حوار مع روحٍ مسكنها فضاء اللّوحة، حوارٍ رفعته ريشة فنّان مع ابتهالات الغسق والأصيل، إلى الّذي خصّ شعب لبنان الأبيّ بجبلٍ شامخٍ، تخطب أشجاره بلغة مبدع الكون.
لوحة اشتقّت ألوانها من مناخات الروح، فلا جمال محنّط، بل عناوين إبداع لم تحجبها ثقافة الباطون المسلّح، ولم تنتظر وسيلة نقل على رصيف الطريق السّريع في الأسفل، وكيف يكون هذا وهي المسافرة مع الريح؟. وكان الانتظار لقمّة الجبل كي تهبط، لكنّ حلم ريشة ياغي صعد بالعشّاق إلى العلى داخل القاطرة، هرباً من عيون تنظر ولا ترحم.
لا يستريح الوقت في فسحة التأمّل، فلصمت اللّوحة ابتهاج رقص القاطرات مع الريح. فقد سرحت فرشاة الفنّان في فضاءٍ متوّهجٍ، من دون اكتراث لتتابع الليل والنهار، وكأنّها مسافرة نحو الأفق الرحب، راسمة مسار نورٍ عُلّقت عليه مصابيح في صدر السّماء، لم يشحّ فيها زيت الترحال، ولم يتباه الغمام أكثر في الانحناء داخل الإطار.
للرسم طقوس يمارسها كلّ رسّام حين ينعتق من المكان والزمان، فيحملنا إلى عوالم الدهشة، في فضاء لوحة. فهل أنّ الرسم هو النموذج الأفضل الّذي يمكن أن يشكّل لغة تواصل بين الأرواح؟ ففي لوحات حبيب ياغي سحر يلاعب الخيال الجامح، وينسج الألوان. ويعبر من خلالها إلى عري الأرض المغطّى بزرقة السّماء.
من يرسم أحلامه، يجب أن يجعل خياله سبيلاً لتحقيقها؛ فقد رسم لنا ياغي حلم الصعود نزهة سارحة بعيداً مع الجبل. وأسرعت القاطرات إلى نهاية مسارٍ صاعدٍ وهي غير مدركة أنّ "كلّ طلعة قبالها نزلة".