رياض بيدس
كان عليّ أن أنطلق فوراً للمشي. الطقس ليس بارداً في الخارج. أضع جاكيت الـ"جينز" عليّ، أفكّر في المناطق التي سأسير فيها، وأقود خطواتي الأولى إلى "ماركت بلاتز" في البداية. ثمّة حركة خفيفة من الناس هناك، خاصّة "ختيارية". ليش؟! لا أعرف. من ورائي أسمع اسمي واضحاً مع صباح قد يحمل اكتشافات جديدة. إنها كريستا تتأبّط ذراع امرأة في السبعينات من عمرها.
أقف مستغرباً، وأسلّم عليهما. تقول لي كريستا: "هذه كارينا التي سمعت عنها حتماً!". وفعلاً سمعت عنها في بيت كريستا وبناتها ومن "بي" كمان. آه. أهزّ رأسي، وأمدّ يدي لمصافحتها، لكنّها لا تمدّ، بل تنظر إليّ على نحو ضبابيّ. تُضيف كريستا: "لا جدوى. إنها مصابة بالألزهايمر". تبدو كريستا حزينة جداً عليها. أسأل: "هل تريدان أيّ مساعدة؟". تجيب كريستا نفياً. أتحرّك محاولاً التقاط ما فقدته من تركيز ووجهة وتفكير، فألقي عفواً نظرة على الكاتدرائية القديمة شبه السوداء. من معالم دورف، الضيعة البارزة. أتابع ببطء كمن فقد اتجاهه، وأقف أمام لائحة "هويريجين" التي قد تكون مفتوحة عندما أعود بعد المشي وأحتسي كأساً من البيرة. لكنني بعصبية أغزّ السير صوب منطقة طبيعيّة، وأنا أتأمّل أشجار الصنوبر والسرو والبلوط وكروم العنب.
مساءً، نزور كريستا أنا و"بي". نظرت إليّ، وقالت: "كان عقلها ممتازاً، وفجأة بدأ بالتدهور!"، ودمعت وهي تحدّثني كيف كانت كارينا تُدير بالها على ابنتيها (شق التوم)، عندما كانتا طفلتين صغيرتين، بعد أن تذهب للعمل مع زوجها في العيادة.
أعجب بإخلاص كريستا، وأفكّر في أن الحياة حتى في النمسا "قرضة ودين". عندما تفاقم وضع كارينا نقلت إلى الملجأ لحاجتها للرعاية طوال الوقت، وكانت كل واحدة من التوأمين تزورها يوماً بعد يوم.
قصة كارينا حزينة جداً. ربما أصابها الألزهايمر بسبب شدّة الحزن. عندما سئلت ذات مرة عمّا إذا كان لها أولاد، أخبروني أنّها فقدت ابنها وحيدها وهو في السابعة والعشرين من عمره بحادث سير.
لم أزر كارينا في الملجأ مع "بي" أو أهلها. لكن قصة فقدانها ابنها الوحيد جعلتني أحار في أمور الدنيا.
ذات صباح باكر رنّ التلفون، فقلت بيني وبين نفسي يا ساتر! كنت أخاف من التلفونات الماكرة. ردت "بي" بسرعة على التلفون خائفة، فتبيّن من رد الفعل أن ثمة مأساة. سألتها: "من؟" أجابت:" كارينا ماتت!". شعرت بحسرة وحزن عليها. تساءلت بيني وبين حالي: "هل توجد آخرة؟!"، وأجبت نفسي: "حبّذا لو كانت هناك آخرة لكي تلتقي كارينا بابنها وكلّ أحبائها. من يعرف؟!
طلبت من "بي" أن تستعلم عن يوم الأجر لنشارك في مواساة أنفسنا.
خرجنا أنا و"بي" لنستنشق هواء منعشاً وطريّاً.