يوسف طراد
إن كان أفلاطون قد اعتبر أنّ الكتاب معرفة ميّتة، ملقاة على الرّف، لأنّ الفلسفة في زمانه كانت قائمة على المشافهة، فريجينا صنيفر وضعت عصف التاريخ الحديث الّذي قام على المجابهة في كتاب "ضياء في ظلمات المشرق"، وتباهى الرّف بحمله لما يحويه من ثقلٍ نوعيٍّ كانز ثقافياً وسياسياً واجتماعياً.
لم تكتب صنيفر بعيداً عن السّياسة، لكنّها كتبت قريباً من الرواية، فإذا ألمّ الكاتب السّياسي بالمدارس السّياسيّة وتمرّس بتقنياتها المختلفة، كتب كتباً فوق كتبٍ، من أبحاث وروايات، وربّما سِيَر عائلات سياسيّة في إطار روائيّ جميل حتّى ولو كانت مشبعة بالتراجيديا كما في هذا الكتاب. وهكذا كانت صاحبة الكتاب الكاتبة والقارئة والناقدة في آن، ضمن إطار نقل الوقائع بصدق المؤرّخ.
ورد في فهارس الكتاب أكثر من أربعمئة وخمسين اسماً من الأعلام، من رجالات دين وعسكريين وحزبيّين ورؤساء وملوك ورؤساء مجالس وحكومات ونوّاب ووزراء ورجال سياسة وفكر وسلك دبلوماسي... كما ورد أكثر من مئتين وخمسين من الأمكنة التي كانت مسرحاً للأحداث في الوطن العربي والشرق والمهجر... لكنّه لم يُذكر في هذه الفهارس مرجعاً واحداً، وهذا دليل واضح على أنّ مذكّرات الأمينة الأولى للحزب القومي السّوري الاجتماعي "جولييت المير سعادة" كانت المرجع الوحيد لهذا الكتاب.
هل كان هدف الكاتبة إظهار المناقبيّة الحزبيّة المثاليّة لرئيس الحزب السّوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة، وعقيلته جولييت، أو أنّه يوجد هدف آخر لا يعرفه إلّا المنضوون تحت راية هذا الحزب؟ لكن من المؤكّد أنّ مضمون الكتاب غني بالسّرد السّياسي المشبع بالأدب الاجتماعي. فإن كان القارئ من خارج جغرافية الشرق، ولا يعلم أيّ شيء عن عقيدة الحزب ومجال هدفه الجغرافي، يستمتع بقراءة الكتاب، لأنّه يروي قصّة عائلة عانت الأمرّين من التّشتّت والسّجن والاضطهاد، ويصف محبّة الزوجين وإخلاصهما لبعضهما البعض ولقناعتهما السّياسيّة، بطريقة روائيّة لا تخلو من النمط السّردي الروائي المشوّق.
أعادتنا الكاتبة إلى زمن كان العيش المشترك فيه يتجلّى بأبهى حلله، حيث كانت نسبة السّكان من المسيحيّين لا يستهان بها، قبل هجرتهم الطوعيّة أو القسريّة من عاصمة الشمال طرابلس، خلافاً لهذه الأيّام التي أُحرقت فيها أشجار زينة الميلاد في شوارع وساحات هذه المدينة: "في الطريق إلى المدرسة، غالباً ما تصادف جولييت أحد الرهبان بردائه الأسود الطويل، يسير على رأس موكب جنازة. وبجانبه شاب يحمل صليباً وأربعة أو ستة رجال يرتدون ملابس سوداء يحملون نعشاً على أكتافهم، تتبعهم الأسرة، ثم الأصدقاء والجيران. طول الموكب يتناسب مع أهمية المتوفي." (صفحة 25).
ظهر ضمن نصوص الكتاب التناقض الكبير في المجتمعات الغربيّة، بين إغاثة الإنسانيّة المعذّبة من قبل مؤسّسات المجتمع المدنيّة والدينيّة، وبين إنزال النكبات بالإنسانيّة بوجه عام، من قبل السلطات السياسيّة التي كانت وما زالت تفتّش عن مصالح دولها على حساب شعوب الدول النامية، كاستغلال فرنسا للشعوب الأفريقية من أجل استخراج اليورانيوم، وما يحدثه هذا الأمر من تلوّث في البيئة الأفريقيّة، خاصة في النيجر، مع ما يرافقه من أمراض تفتك بعمّال المناجم، وتلويث آبار الشرب: "ولكن لا يهمّ! فالركّاب اعتادوا الجوع والحرمان قبل رحلتهم هذه بأشهر قليلة أثناء المجاعة، حيث كان متديّنون فرنسيّون يوزّعون ما يسمّى (الحساء الشعبي) إلى البيوت". (صفحة 41).
نلاحظ أنّه في القسم الأوّل من الكتاب الّذي يتكلم على الهوية والانتماء، لم تستطع الكاتبة، نقلاً عن جولييت التي كتبت هذه المذكّرات، فصل لبنان عن سورية أو دمجه ضمن جغرافيتها، فكانت التسمية مزدوجة في عدّة نصوص. على سبيل المثال لا الحصر ما ورد في (الصفحة 36): "لم تتقبَّل عائلة المير هذا التمييز بين الهوية السورية والهوية اللبنانية الذي فرضه الانتداب الفرنسي، فاعتبرت نفسها سوريّة-لبنانية". وهذا دليل واضح على العقيدة الراسخة للحزب السوري القومي الاجتماعي الذي يعتمد جغرافية شمولية على رقعة من أرض الشرق الأوسط وقسم من قارة أوروبا كجزيرة قبرص.
على الرغم من أنّ الانتساب إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي كان يجري على أساس عقيدة سياسية ثابتة وواضحة، وشرطه الإخلاص لهذه العقيدة والوطن السّوري ضمن الهلال الخصيب، والاهتمام بالأمن الاجتماعي كما السّياسي، والاندماج بالعمل الإنساني كما الثقافي، فقد شهدنا من قبل الحزبيّين خلال السّرد الخيانات، والطعن بالظهر، والتصرفات البعيدة من الوضوح والديمقراطية الحزبية اللذين تفرضهما عقيدة الحزب: "فاستقطاب الشباب السوري يتم على أساس هذا الإطار الفكري، وقبول العضوية في الحزب مشروط باعتناق هذه المبادئ". (صفحة 52).
عندما تتّحد السّياسة الهادفة بالحبّ الصادق تولد أحلام أوطان فاضلة، يُعدم أو يُسجن من يحاول ترجمتها. آثار الحياة الصاخبة سياسياً طرقت باب جولييت المير سعادة، فصنعت مواقيت لمحطّات عشقٍ مع حبيبها أنطون سعادة، ووجدناها سابحة في يمّ السعادات الّذي فاض في بداية الكتاب. وبقيت هذه العلاقة مقرونة بالإخلاص حتّى النهاية، قبل وبعد أن أحدثت الحياة في عناق الروحين قروحَ حبٍّ: "لقد وجدتُ أخيراً الشخص الذي يفهم كياني. أشعر أنني أنا نفسي قد التقيت بنفسي عندما عرفته لأوّل مرّة. بدأت أفهم معنى الأشياء وأسباب وجودها" (نقلاً عن لسان جولييت سعادة كما ورد في الصفحة 68). "لكن أنطون يصرّ: أحتاج لامرأة تحبّني لنفسي، لا من أجل اسمي. ليس بالمال ولا بالجمال نخدم القضية". (صفحة 71).
الكتابة بَنَتْ وطناً أسطوريّاً لأمّة غير موجودة إلّا في الأساطير. وكان عدم تحقيق الحلم عائداً لبناء عقيدة حزبيّة على تاريخ عريق مضى ولن يعود، وليس على واقع مأزوم لشعب مشتّت يلزمه ثقافة اجتماعيّة، ليتمكّن من اختيار هويته السياسيّة. فقد بدأ سعادة مسيرته السياسيّة مستنداً إلى حضارة قديمة، ولم يمرّ بالحاضر بل تخطاه إلى حلم لا يتحقق إلّا بعد أن يعي الشعب حاضره: "كان أنطون على غرار والده يكتب بلا انقطاع، يكتب كما يتنفس في خدمة أمّة مخنوقة". (صفحة 78).
تشكّل السّياسة الحقّة طريقاً لتقدّم الأمم ورقيّها ونمائها وازدهارها. فهي ليست معطًى فكريّاً أو إنسانيّاً فقط، بل هي أسلوب من أساليب الإدراك لحاجة المجتمع والدولة. وإذا ما تبصّرنا في أحوال المجتمعات الغربيّة الراقية، لرأينا بعين اليقين ما أعطته السياسة من أسس نحو رؤية أكثر منهجيّة لأسباب الحياة ونظمها واجتماعها. فالسّياسة هي فعل مقاومة للجهل والانحطاط والتقوقع والانغلاق، فهي تحيي في روح الإنسان مكامن النظرة الحقيقيّة نحو صيرورة المجتمعات الراقية.
وفق ما ورد في الكتاب، كانت السّياسة فعل تهذيب للنفس وترقٍّ لها، قبل أن تكون كفاحاً وفعل مقاومة. فمواقف وخطابات أنطون سعادة أسبغت على محازبيه ثقافة بعمق التدبّر ورشاد الفعل ووطنيّة السلوك. فقد كان يطمح إلى آفاق فكريّة تتلاقح بها الثقافات، كي يرتقي المجتمع إلى آفاق أكثر اتّساعاً ومدى.
ومن نافل القول أنّ تناول صنيفر لموضوعات السّياسة والاجتماع بطريقة روائيّة، وصفت مسيرة هذه العائلة السّياسية، شكّل رافداً كبيراً للقارئ، ومنحه مادة للنقاش الحيّ بينه وبين الخط السّياسي الّذي يؤيّده، حتّى ولو كان مناقضاً لفكر وطروحات أنطون سعادة، كما مكّنه من أن يطّلع على فكرٍ أكثر نضجٍاً وعمقاً لتأطير الوعي الجمعي نحو تعميم ثقافة سياسيّة رائدة بين أبناء المجتمع الواحد، بواسطة الحوار الراقي: "الأمّة السورية هي محصِّلة للتفاعلات بين الناس وجغرافيتهم في بيئة طبيعية. فتماسك بلاد الشام أساسه الوحدة الجغرافية والتاريخية". (صفحة 95).
الحداثة المعرفيّة في السّياسة تقدّم للسّياسيّين وللحزبيّين وعياً وقدرة على التماهي مع الحضارات والسّياسات الأخرى. فإن فُقدت هذه الحداثة يتوّلد استلابٌ ثقافيّ وسياسيّ، وينحو المتمسّكون بالحكم نحو تعميم ثقافة ترسّخ فعل الانتقام: "لم يتمكّنوا من إفسادي فقتلوني". (صفحة 203).
ظهرت المناقبيّة الحزبيّة التي تمتّع بها أنطون سعادة واضحة في الكتاب، فقد اجتمعت بشخصيته جميع صفات القائد، والتفّ حول مبادئه الكثير من المؤيّدين: "يعرف أن الدفاع عن أفكاره يتطلّب تفانياً في العمل، ويتوجّب عليه الانطلاق تحت أيّ ظرف! يبدأ العمل دائماً في الوقت المحدّد مثل عامل يراقبه رؤساؤه". (صفحة 98).
"ويؤكد على حقيقة أن الحزب السوري القومي الاجتماعي يعترف باستقلال لبنان، ومع ذلك يبقى هذا الكيان جزءاً من (سورية الطبيعية)" (صفحة 122). السؤال الّذي يطرح نفسه، هل الحلم بالهلال الخصيب يتحقّق إن كان استقلال لبنان منقوصاً أو سيادته منتهكة؟ فالعائلات السّياسيّة الوطنية اللّبنانيّة عملت وتعمل على تحقيق استقلال منجز وسيادة غير منقوصة. على سبيل المثال لا الحصر، وجه الشبه بين عائلة أنطون سعادة وسمير جعجع من ناحية المناقبيّة المثاليّة، والإصرار على تنفيذ مشاريعهما السياسيّة، ولو كان الثمن باهظاً. فالأخير زُجّ في السجن ظلماً وبهتاناً لأكثر من عقد من الزمن بتهمة باطلة "تفجير سيدة النجاة"، كما سُجنت عقيلة أنطون سعادة في سجن المزّة بتهمة اغتيال أحد الشخصيات وهي بريئة. وقد أكّد الزمن صوابيّة النظرة المستقبليّة عند سمير جعجع خلال الحرب والسلم. فقد عرفنا صوابيّة الانتفاضة بتاريخ 15/ 1/ 1986 التي قام بها من أجل إفشال الاتّفاق الثلاثي، عند إلقاء القبض على ميشال سماحة الّذي أبرم الاتّفاق هو وأسعد الشفتري، بعد ضبط متفجّرات في سيارته وهي تعبر الحدود من سوريا إلى لبنان. وقد صرّح السفير الأميركي بارثولوميو في حينه: "أنّ سوريا تريد أن ترى إصلاحات في لبنان" مدافعاً عن الاتّفاق، ومتجاهلاً ذكر السّيادة اللّبنانيّة، وكأنّ لبنان محافظة من سوريا؛ هذا في زمن الحرب. أمّا في زمن السّلم فقد قدّم جعجع على إحدى طاولات الحوار في بعبدا رؤية تمحورت في توحيد شرائح المجتمع التعدّدي، من خلال تبنّيه سياسة الحياد الخارجي، مع عدم التخلّي عن القضايا العربيّة المحقّة، وعلى رأسها القضية الفلسطينيّة؛ وهذا ما تطالب به الآن شريحة كبيرة من المجتمع اللّبناني من جميع أطيافه، خاصّة البطريرك الماروني. وهذا الطرح يؤدّي إلى الحفاظ على الاستقلال وتأمين الأمن السياسي والاجتماعي من أجل لبنان قوي.
فالحلم بالهلال الخصيب لا يتحقّق إلّا انطلاقاً من لبنانٍ قويٍّ وانتماء حزبيٍّ صادق، فهل التقى أنطون سعادة مع سمير جعجع في نصف الطريق؟
وانتهى الحلم من دون تحقيق: "تملأ الفقرات تدريجياً بياض الصفحات المسطّرة في دفتر مدرسيّ. بجدّية وحزن، تنقش حروفها كشهادة لنصرة المهزومين في التاريخ، ولتضعها على قبر هلال لم يعد خصيباً" (صفحة 310).