ليست هي المرة الأُولى التي يحلّ فيها المفكّر والكاتب عبد الحسين شعبان في "دار النهار". فقد سبق أن نشرت له واحداً من أهم أعماله، هو "فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي". كان ذلك عام 2005، أي في مرحلة عرف فيها عالمنا العربي، خصوصاً العراق، فصولاً مظلمة قلّ نظيرها في التاريخ. فكان كتاب عبد الحسين شعبان عن فكر التسامح شمعة أمل في ظلام كبير.
في مقدمة ذلك الكتاب قال العلّامة المطران جورج خضر إن "عبد الحسين شعبان لا ‘يخترع’ إسلامه ولا يبتدع. هو لا ‘يعصرن’ القرآن ولا يُسقط عليه أُفهومات ليست منه، بل يأخذ نفسه بما فيها من حداثة إليه. وهذا ليس بالتوفيقية الرخيصة. إنه سعي إنسان يفتح عقله المجبول بالحضارات ليتقبل النور الإلهي الذي يقذفه الله فيه".
عبد الحسين شعبان، المتعدد الاهتمامات الفكرية والثقافية، عاد اليوم إلى دار النهار ليكون حاضراً في نهوضها المتجدّد، فأصدرت له كتاباً عن صديقه الشاعر العراقي الراحل مظفّر النوّاب بعنوان: "مظفر النواب – رحلة البنفسج". وأتى هذا الكتاب ليكون أول كتاب يجمع شتات مظفّر النواب. وبالنظر إلى فرادته وأهمية موضوعه، وبالرغم من حداثة صدوره، أُقيمت حوله ندوات ومناقشات وكُتبت عنه دراسات ومقالات عديدة.
يتناول الكتاب ظاهرة الشعر وعلاقته بالفلسفة والتاريخ، كما يتحدث عن أُصول مظفر النواب وأول تصحيح لتاريخ ميلاده. ويقع في خمسة أقسام، بدءاً من: "مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا". وينطلق القسم الثاني من وحي الأُمسية البرلينية التي أُلقيت فيها محاضرة عن النواب. ويعالج القسم الثالث، وهو بعنوان "مظفر النواب وجدار بريخت"، أُسلوب النواب في كتابة القصيدة ومسرحتها. ويتناول القسم الرابع "إضمامة" بقلم جاسم المطير الذي وصف الدكتور عبد الحسين شعبان بأنه "كاتب خطّاف"، وتحدث عن زفزفات الفانتازيا وألوان زخارفها في أشعار مظفر النواب. وجاء القسم الخامس مختارات من شعر مظفر النواب بعنوان "الذائقة الشعرية، بعض خصائص القصيدة النوابية"، وضمّ ثماني عشرة قصيدة من أهم نصوص الشعر الشعبي للنواب. وفي خاتمة الكتاب نتعرف على سيرة الشاعر مظفر النواب وسيرة المفكر عبد الحسين شعبان، مع مجموعة من الصور التي جمعتهما على ضفاف الذاكرة.
علاقة الكاتب بالشاعر العراقي مظفّر النوّاب استمرت خمسة عقود من الزمن، منذ أن التقى به للمرة الأُولى عام 1968 بعد هروب النواب من نفق سجن الحلّة. وحين تحدّث الكاتب عن صديقه الشاعر وعن لقائه به وصداقتهما المديدة، بيّن أهمية التطابق بين الصورة المتكوّنة عن المبدع من أعماله وعن احتمال الخيبة عند اللقاء والتعارف في بعض الحالات، وميّز بين نوعين من الشخصيات مصنّفاً النوّاب ضمن النوع الذي تُسرّ للقائه وتفرح. والحقيقة أن عبد الحسين شعبان هو نفسه من هؤلاء المبدعين الذين إذا التقيتهم شخصياً بعد أن تكون قد تعرّفت عليهم من خلال أعمالهم تفرح وتُسرّ لتَطابق الصورة والانطباع المتكوّن عنه مع حقيقة شخصه الذي يفيض لطفاً ودماثةَ خُلقٍ وسلامَ نفس وأناقةَ حديث واتساعَ علم وموسوعيّةَ اطّلاع ومعرفة.
لم يقتصر عبد الحسين شعبان على رواية سيرة صديقه الشاعر مظفّر النوّاب أو علاقته به أو علاقة النوّاب بالسياسة والفكر والشعر والعراق والعروبة واليسار أو غير ذلك، بل استعاد كل تلك الجوانب وولجها من مفتاح عقله "المجبول بالحضارات" والمطلّ على العصور الآتية، مشبعاً بثقافة الماضي الجميل. هكذا أتاح لهذه الثقافة أن تُصبحَ آنيّةً مجدّداً، مستحضراً مظفّر النواب بإبداعه وآلامه ومنفاه وخيباته وآماله، التي ليست سوى آمال ونضالات وخيبات العراقيين وكثيرين من العرب. وقدّمه نموذجاً حيّاً الآن وهنا، في بيروت وبغداد وجنوب العراق وحيثما حلّ في المدن والعواصم، مثبتاً أن قضية النوّاب لم تنته ونضاله ونضال أمثاله إلى جانب المظلومين والفقراء ولأجل العدالة الإنسانية لم تنطفئ شعلته، وأن مدرسته الشعرية لم تنضب ولن تنتهي.
حلّل شعبان جوانب الموهبة الاستثنائية عند النواب، مبيّناً كيف وُلدت في بغداد ولكنها نبتت وأزهرت في الأهوار في مناخ الجنوب وعلى مقامات لسان أهله الموسيقي بطبيعته. وهنا مقطع من كلام الكاتب وتحليله العميق والشامل لجوانب موهبة الشاعر: "جمع مظفر النواب بين الصوت والصورة بحيث لا يمكنك أن تتخيل أصوات مظفر النواب دون صور معبرة وموحية. فقد تمكن من إعطاء الصورة صوتاً، مثلما أعطى للصوت صورة. وعلى الرغم من كونه شاعراً منبرياً اعتاد الوقوف طويلاً أمام الجمهور، إلا أن منبريته لم تكن دعووية وتبشيرية ودعائية بقدر ما كانت تساؤلية عقلية نقدية. وكما أنها اقتحامية وتدافع لكي تأخذ مكانها خارج المألوف، فقد كانت الأكثر رنيناً وموسيقية وإيحاءً وبوحاً. وبقدر ما كان الصوت عالياً، إلا أنه كان شفيفاً لأنه صادر من القلب وباحث عن الحقيقة. وأية حقيقة في الشعر فتلك حقيقة مجسمة".
رحلة الشاعر مظفّر النوّاب الطويلة بدءاً من التخلي الطوعي عن الإطار العائلي البورجوازي واختياره النضال إلى جانب الفقراء وخوض العمل السياسي واعتناق الفكر الشيوعي، والتمرد على الحزب الرسمي المتحالف مع السلطة، دون الخروج عن فكر اليسار، والسجن والفرار منه والنفي المديد... هذه الرحلة بقلم عبد الحسين شعبان ليست من أدب السيرة، كما أنها ليست من النقد الأدبي. فهي لا تنحصر في نوع أدبيّ واحد، لكنها حقاً أنواعٌ متعدّدة في كتاب واحد يحتوي أيضاً على باقة مختارة من أهمّ روائع مظفّر النوّاب. لعلّ باقة البنفسج هذه تُغني عن مشاريع الأعمال الكاملة للشاعر التي لم ترَ النور أو لعلّها تحمل على تكرار المحاولة وإنجاز عمل كهذا.
"حين أراد الكتابة عن الشاعر مظفر النواب، ذهب الكاتب إلى غابته ليحفر فيها باحثاً عن أسرارها"، كما يقول جاسم المطير في أحد فصول الكتاب. "هيمن بسرعة على الطبيعة الشعرية المظفرية ليضع أوراق أشجارها العالية أو المطمورة بطين أرضها تحت نظر بصيرة الأجيال الشعرية الجديدة والقادمة، العارفة بشيء أو أشياء عن شاعرية هذا الشاعر العراقي وتسرمُد هيمنته على الشعر الشعبي العراقي في مرتبة من المراتب ومحاولاته الصعود إلى هيمالايا الشعر الفصيح للاصطفاف، متحيزاً، إلى جانب الجواهري والبياتي والسياب وبلند الحيدري ونازك الملائكة."
في "رحلة البنفسج" التي يأخُذُك إليها عبد الحسين شعبان، تتذوّقُ الإبداع في شعر مظفّر النَوَّاب وتتعمّق في سيرته الغنيّة، بقلم شاهد على ذلك العصر وأشخاصه وأبطاله. إنها تأريخٌ لمسيرة ثورةٍ ونضال وتمرّد وألم وإبداع وإلهام، على إيقاع أحداث القرن الماضي وتحولاته، وما عرفته تلك الأحداث من آمال وخيبات وثورات وانكسارات... والنوّاب، الذي لم يعُد إلى العراق من منفاه الطويل وتوفّي في الشارقة عام 2022 عن عمر ناهز الثامنة والثمانين، ترسّخ في أذهان محبّيه شاعراً منفياً إلى أن أعاده عبد الحسين شعبان إلى العراق عبر كتابه الصادر عن دار النهار في بيروت، حيث أُقيم له احتفال كبير قبل أيام في بغداد، استضافه نادي الصيد في العاصمة العراقية وحضره عدد كبير من محبّي الشاعر المبدع ومن محبّي الكاتب، وتضمّن كلمات عن كليهما وتخلله قراءات من روائع النوّاب الشعرية.