يراهنُ الاشتغال المعرفيّ على أشكلة المفاهيم والحَفْر في المُعطيات المعرفيّة وكون القراءة نواةً في بناء العقل الجدليّ؛ لذلك من الطبيعيّ أن يكون السؤالُ قائماً بشأن هذا النشاط الحيويّ وما يستدعي ذلك من الانفتاح على تصنيف القرُّاء والالتفات إلى دور النّاقد في تعدين المناهج والآليات الكاشفة لمواصفات طينة النصوص الأدبية.
حول هذه المواضيع كان لنا حوار مع الكاتب والأكاديمي الجزائري لونيس بن علي، وهو يناقش في سياق إجاباته آراء عديد من المهتمين بمفهوم الخطاب الأدبي.
أجرى الحوار/ كه يلان محمد
- يعتقدُ تودوروف أن النقّاد والمنظّرين يطويهم النسيان بينما لا تغيبُ الأسماء الإبداعيّة "ستندال، روسو، يروست "مهما تقادمَ عليهم الزمن. هل نفهمُ بأنَّ القارئ العادي هو من يعيدُ الحيوية للنص وليس الناقد؟
أولاً، يجب التفريق بين الناقد والمُنظِّر، فكلاهما يقف على وظيفة مُحدَّدة لا يجب الخلط بينهما؛ فمجال عمل النّاقد الأدبيّ هو معرفة ما الذي تقوله الأعمال الأدبية، والكشف عن الدلالات والمعاني، ثم تقييمها. أما عمل المنظّر الأدبي فهو صياغة القواعد والقوانين الأدبية لأجل فهم كيف يتشكّل الأدب.
صحيح أنّ صورتيهما قد مُرِّغتا في الوحلِ، فأصبحا بمثابة نذيري شؤم على الأدب يتوجب التحذير منهما، حيث يكفي قراءة ما كان الأدباءُ يقولونه متهكمين وساخرين من النقّاد الذين وُصفوا بجميع الصفات المهينة، أو كيف كانت الصحافة لا تفرّق بين المنظّر والإرهابي لِمَا في كلام المنظّرين من غموض وتعقيد حتى أنّه يتخيّل للبعض أنّ الأدبَ أحجية كبيرة. ولن تسعنا هذه المساحة لشرح وتفسير هذا التاريخ الأسود للنقّاد والمنظّرين. لكن يجب أن نعترف في الوقت نفسه بأنّ النقّاد والمنظّرين ساهموا على حدّ سواء في تأليب الرأي العام عليهم، وهم يتحمّلون جزءاً من الضرر الذي لحق بهم جرّاء ممارساتهم.
ثانياً، أن نقول اليوم بأنّ القارئ "العادي"، ونركّز على لفظة "العادي" هو الذي سيعيد الحيوية للنصوص، فهذا كلام محفوف بالمغالطات أيضاً، وفيه الشيء الكثير من المبالغة. القارئ العادي في نظري هو قارئ لا يتجاوز سطوح النصوص، وعلاقته بالأدب علاقة انطباعيّة بالأساس. لا أشكّ في ذكاء هذا النوع من القرّاء، لكنه قارئ لا يساهم في إنتاج الخطابات عن هذه النصوص، فعلاقته تظلّ سلبيّة تنتهي بمجرد غلق الكتاب.
أنا أدافع عن القارئ المُنتج، الفعّال، الذي يتحوّل من قارئ إلى كاتب يجسّد قيم القراءة بشكل تحليلات وتأويلات للنصوص التي قرأها.
ما نحتاج إليه هو القارئ المتمكّن من أدواته المفاهيميّة والإجرائيّة، وفي الوقت نفسه متحرّر من سلطة المدرسة. لا يغرنّك ما يكتبه القراء اليوم من انطباعات سريعة حول نصوص قرأوها، ولا أتصوّر أنّ الكثير منهم نجحوا في التوغّل في لعبة المعنى، إلا إذا كنت تعتقد بأنّ توزيع الأحكام تصنع القرّاء الجيّدين.
ثالثاً، لا يمكن للأدب أن يستمرّ في الوجود إلّا بفضل عيّنة استثنائيّة من النقّاد - القراء. أنا أدافع عن وظيفة النقد رغم ما يُقال عنها، ووظيفته أيضاً أن يجعل الأدب ممكناً، ويمنح له القدرة على الاستمرار في الوجود.
- ما تعليقك على من يذهب في تفسيره لظاهرة النفور من الحقل الأدبي إلى تقيّد النص بترسانة من النظريّات والمصطلحات التنظيرية؟
علاقة الأدب بالمناهج علاقةٌ جدليّة. أقصد أنّ النقاش التقليدي الذي ما زال دائراً اليوم هو: هل المناهج هي التي تصنع النصوص أم النصوص هي التي تصنع المناهج؟
يجب العودة بعقارب السّاعة إلى الوراء، وتحديداً إلى بدايات ظهور مقولة "المنهج"؛ فالمنهج غريب عن الأدب، إنّه مقولة دخيلة عليه، جاءت من حقل العلوم التجريبية. يعني المنهج جملة من القواعد والآليّات التي تهدف إلى بلوغ الموضوعية في دراسة الظواهر. ولأنّ المناهج أتت ثمارها في الحقول العلميّة، تسلّلت الغيرة إلى نفوس دارسي الأدب وتاريخه، وتساءلوا: ماذا لو طبّقنا هذه المناهج لفهم الظاهرة الأدبية؟ تطوّرت المسألة بعد ذلك إلى عدد من الممارسات التطبيقية، وانتهت إلى نحت مصطلح عجيب لا أستسيغه شخصياً ألا وهو "علم الأدب".
في نظري، لا يمكن تطبيق هذه المناهج على الأدب إلا إذا اعتقدنا بوجود حقيقة موضوعية وثابتة ونهائية تسمّى الأدب. الإشكال يبدأ من هنا. لقد عاش النقد الأدبي تحت سلطة المدرسة، يغذّيه وهم خطيرٌ، وهو أنّ المناهج قادرة على أن تقبض على حقيقة الأدب، ولو أننا إلى اليوم فشلنا في الاتفاق حول دلالة الأدب ذاته، وما بالك بجوهر النصوص على اختلافها وتنوّعها.
من وجهة نظري، أنا ضد فرض المناهج على النصوص، فالأمر شبيه بإخضاع النص لاستجواب بوليسيّ؛ بل لا بدّ من معرفة كيف نستخلص أدوات قراءتنا من النصوص نفسها. هذ لا يعني أنّني ألغي المناهج، بل أن نتوقّف عن اعتبارها سلطة وواجباً معرفياً.
- هل توافق "رولان بارت" في رأيه بأنَّ الكتابة لم تعدْ عملاً فردياً إنما هي حصيلة الجهد يبذلهُ بالتضافر والتعاون كلٌّ من المؤلّف والقارئ؟
لا يهمّني أن أتفق مع وجهة نظر رولان بارت أو أن أختلف معها. ما يهمّني هو كيفية تصوّري لعلاقة المؤلّف بالقارئ. سنتّفق مبدئياً على أنّ هذه العلاقة من طبيعة معقّدة. من الناحية الواقعيّة، المؤلّف بحاجة إلى القارئ الذي يشتري كتبه ولا يقرصنها، كما أنّه يعشق القارئ الذي يمدحه ويرفعه إلى مصاف الآلهة، عدا هذا لا يمكن أن أتصوّر مودّة ممكنة بينهما؛ وأنتَ الأدرى بمعارك الدِيَكة التي تنشب بين الكتّاب والقرّاء بسبب وجهة نظر كسرت كبرياء الكاتب، أو خدشت نرجسيته.
أمّا على الصعيد النظريّ، فالنظريات تخلق دائماً جواً رومانسياً بين المؤلّف والقارئ، وكثيراً ما يتمّ تصوير القارئ بين أحضان مؤلّفه.
-من مواصفات القارئ السيّئ - حسب رأي الكاتب الفرنسي مكسيم ديكو - التماهي مع النّص ومحاكاة أجوائه. ويضربُ آلام فارتر مثالاً لنصّ مُفخّخ؛ هل شهدت الرواية العربية مرحلة القارئ السيّئ؟
لا يمكن أن نعرّف القارئ السيئ من دون أن نكون قد شكّلنا صورة واضحة عن القارئ الجيّد، لأنّنا هنا أمام قيمتين متحوّلتين وغير ثابتتين. ما أعتبره أنا قارئاً سيّئاً قد يكون في نظر الآخرين قارئاً جيّداً. ربما هذا ما يزرعه النقد الجامعي الذي يروّج لمثل هذه التراتبية القيميّة.
بالنسبة لي القارئ السيّئ هو القارئ الرائج اليوم، أي باختصار هو ذلك القارئ الذي يكتب عن "عبد الرزاق قرنح" من دون أن يقرأ له أيّ رواية. وأنا أعرف الكثير من هذه النماذج.
-هل تعتقد بأنَّ تضاعف عدد المؤلّفين وندرة القارئ خطرُ على الأدب؟
لم تكن الندرة يوماً خطراً، بل العكس هو الصحيح. لقد فقد الأدب مكانته لما أصبح عدد الأدباء ينافس عدد الحرفيين في الشوارع الشعبيّة، والأمر نفسه بالنسبة للذين أصبحوا يعلّقون وينشرون انطباعاتهم حول النصوص التي قرأوها أو حتى تلك التي لم يقرأوها.
عندما يكثر عدد كتبة الأدب وعدد المعلّقين يُصبح الأدب والقراءة في خطر حقيقي.
لقد أصبحنا نقرأ نصوصاً فقيرة جمالياً، مجرّد مسوخ نصيّة عن نسخ أصليّة، أو مجرد حكايات وإنشاءات بلاغيّة بليدة ومضرّة بالذائقة الأدبية، ثمّ نجد عدداً من القراء والنقّاد يتحدّثون عنها كما لو أنها فتح أدبيّ يستحقّ الاحتفاء.
السبب هو الكثرة. كثرة المنتسبين إلى مهنة الكتابة والقراءة، كأنّ العالم لم يعد يتّسع لأحرف أخرى مثل صناعة الخبز والحدادة والنجارة، وهي أكثر فائدة من إغراق مكتباتنا بنصوص هزيلة تضرّ بصحّتنا الثقافيّة.
- أي نوعٍ من الكتب تفضّلُ؟ ما يوهمك للحظةٍ بأنَّه أصبحَ بديلاً لغيره من العناوين غير المقروءة أو ما يسحبُ من الرأس ما تراكم نتيجة قراءات سابقة ويخلف مساحات فارغة؟
أحبّ الكُتب التي تُمتِّعني وتُحرّك في داخلي أشياء كثيرة مثل القناعات القديمة، القوالب اللغوية الراكدة، التخييلات الباهتة. أحبّ الكتب التي تجعلني أكتشف أهمية الأدب ومتع القراءة من جديد.
-يمتدحُ فاليري لاربو القراءة بأنها "رذيلة بلا عقاب"، فماذا عنك؟ كيف تمتدحُ القراءة؟
القراءةُ عندي هي فعالية إبداعيّة على صعيد الكتابة والتأويل. القراءةُ هي العبور نحو المعنى المنفلت عبر الكتابة الموازية التي لا تكون ظلاً باهتاً للأدب.