النهار

"صبيّ القجّة"
صَبيّ القجّة.
A+   A-
جورج يرق

ربّما معظمكم أو بعضكم يتساءلون: لماذا لم يخبرنا زيّان، إلى الآن، شيئًا عن أهله؟
لا داعيَ للاستعجال. كلّ شيء في وقته حسنٌ. سأخبركم عن أفراد أُسرتي واحدًا واحدًا بإيجاز طبعًا. لأنّي أمقتُ التطويل.
 
أبي، عفوًا، المرحوم أبي، كان سائق شاحنة قضى بانفجار المرفأ في بيروت. هذا الانفجار الذي حصل في الرّابع من آب العام 2020، وقضى على نحو مئتين وعشرين مواطنًا، ودمّر ثلث مدينة بيروت العريقة.
 
أكيدًا، كلّكم سَمعتُم به. وقد يكون لبعضكم أعزّاء وأقارب في عِداد هؤلاء الضّحايا. ولربّما شارك فريق منكم في إحدى وقفات الاحتجاج، التي يقوم بها أهالي الضّحايا بين حين وآخر مُطالبين بمحاكمة المسؤولين عن جريمة العصر هذه. أنا لم أفوّت أيًّا منها.
 
لو كان أبي حيًّا لَما اشتغلتُ في عطلة الصّيف. ليس لأنّه لا يحبّذ أنْ أعمل وأنا في مثل هذه السّنّ، بل لأنّه يرى أنّ العطلة للاستراحة بعد تسعة أشهر من الدّرس والمذاكرة. صراحةً، أفتقدُه كثيرًا. أفتقدُ حنانه وصوته ورائحة ثيابه بعد عودته من العمل. أفتقدُ أيضًا نصائحه. للمناسبة، استفيدوا ما استطعتم من إرشادات آبائكم. لن تجدوا أحدًا يحبّكم مثلما يحبّونكم هم، ويريدون كلّ الخير لكم.
 
بعد استشهاد أبي، راحت أُمّي تشتغل في المستشفى لإعالتنا، نحن أولادها الثّلاثة. لم تدرس التمريض في الجامعة، لكن سبق أنْ خضعت لبضع دورات تدريب على الإسعافات الأوّليّة، عدا أنّ لديها القدرة على التعلّم سريعًا لو أحبّت العمل الذي تقوم به. وها هي، اليوم، مساعدةُ المَسؤولةِ عن قسم غسيل الكُلى.
 
أخي أُسامة، وهو توأمي الذي يشبهني شبْهًا كبيرًا جعل رفاقنا وأقرباءنا لا يميّزون أحدَنا من الآخر. إنّه يعمل أيضًا في عطلة الصّيف. يميل إلى الشّغل اليدويّ، لذا يداوم في محلّ لتصليح السّيّارات اليابانيّة. لا تستغربوا لو أخبرتكم أنّه عمل لدى إسكافيّ ماهر في حَيِّنا من دون مقابل لكي يتقن هذه الحِرفة المُهدّدة بالانقراض. لكنّه فضّل عليها تَعلُّم ميكانيك السّيّارات، هو الذي منذ صغره يهوى عالَم السّيّارات ويشتري المجلّات المختصّة بهذا العالَم. أحدُ أصحابنا يقول إنّ أُسامة يعرفُ مكان كلّ برغي في هيكل السّيّارة ومحرّكها. وكثيرًا ما ألمحتْ أُمّي إلى الجامع بين هِوايَتيْنا، مُعلّقةً: "الله يساعدني عليكما. واحدٌ هَاوي سّيّارات وسَبَق السّيّارات. وواحدٌ هَاوي بيسيكليتات وسَبَق البيسيكليتات".
 
أمّا أُختي بِتْرا فهي الصُّغرى. بعد انتهاء دوام المدرسة، تتولّى بعض أعمال التنظيف في البيت ثمّ تدرس قليلًا وتنجز الفروض. في الصّيف، تساعد أُمّي في المنزل، وتذهب مرّتيْن في الأسبوع إلى ورشة لتعلّم أصول الخياطة في مقرّ الكشّافة. في وقت الفراغ، تقرأ رواية بالعربيّة أو الإنكليزيّة. لطالما استغربتُ قدرتها على قراءة رواية من خمسمئة صفحة، مثلًا، خلال أسبوع. أنا لستُ مثلها. أحبُّ المطالعة جدًّا. لكنّي أميل إلى الرّوايات القصيرة. أقرأُ عشرَ صفحات من الرّواية، فإن جذبتني حوادثُها وشخصيّاتُها أنتهي منها سريعًا، وإلّا أتركها وأبحث عن غيرها.
 
أُحبُّ الإيجاز.
 
* فصل من رواية للفتيان عنوانها "صَبيّ القجّة" ستصدر للرّوائي اللّبناني جورج يرق لدى منشورات "كتاب وقمح".
 
* سُمّي الرّاوي "زيّان" تقديرًا للصحافي والروائيّ الرّاحل إلياس الدّيْري الذي وقّع به "نهاريّات" في "النّهار".

اقرأ في النهار Premium