رياض بيدس
ما الذي يجعل الفرق أو الفروقات بين بلد وآخر حاسمة؟! لا أعرف. لكنني أعرف بعض الفروقات الطفيفة بين باريس الحيوية وفيينا الجامدة، غير أني لن أخوض أنا الراوي شبه المجهول في هذا الشأن!
كما في كل ليلة كنا نشق انا و"بي" طريقنا الى حي المونمارتر، حيث تقبع هناك كاتدرائية القلب الأقدس، وهناك نجد الحياة حافلة جدا. نأخذ معنا قنينة من النبيذ مع بعض الساندويتشات المحشوة بالجبن ونرتمي على العشب الأخضر، نستمع الى الموسيقى التي يطلقها شابات وشباب ربما كانوا فرنسيين أو أجانب مع غيتارات تصدح بموسيقى جميلة جدا .
كانت شقتنا في باربيس وكان الوصول مشيا الى حي المونمارتر يستغرق نحو عشر دقائق. كنا نجد متعة كبيرة جدا في صعود الدرجات العديدة للوصول الى حي الفنانين الشهير. أحيانا أدمدم ونحن نصعّد الدرجات: "درجات، درجات لا تنتهي !". "بي" تضحك. حتى الآن، أنا شبه متأكد أنني كسبت شيئا من صحتي بفعل تسلّق درجات المونمارتر التي لا تكاد تنتهي أحيانا!
... صباحا قد أقوم ببعض الجولات. ما أن أنزل من الشقة حتى ينتابني شعور قوي بأنني في البلاد. أين؟ ربما في جنين أو في منطقة من مناطق العالم الثالث. تحت الشقة مباشرة يقف أحد الشيوخ لا أعرف من أين أصله، يفرد بسطة كتب بالعربية والفرنسية، مما يبعث على الفرح في نفسي.
عندما كنت صغيرا ونعيش في البلدة في الحارة الغربية، كان شخص من جنين يأتي كل يوم جمعة أو سبت ويفرد بسطة من الكتب على مقربة من الصيدلية أو على مقربة من ملحمة خالي ديب. كنت أعشق الكتب، ولا أزال. أقف ساعات أتأمل الكتب اللبنانية. آنذاك لم أكن أملك ثمن أي كتاب لشرائه، وأجد صعوبة في قراءة كتب مكتبة أبي خاصة أن معظمها كان بالإنكليزية والقليل من الكتب العربية التراثية الصعبة على ولد صغير. كان الكتاب شيئا عظيما، وكان أحيانا يتمزّق لكثرة ما تتداوله أيدي القرّاء.
شيء يبعث على الفرح: هنا في باريس، ومباشرة تقريبا على بعد مترين من مدخل شقتنا يقف بائع على مقربة من بسطة كتبه وانا أنقل نظراتي بشغف على الكتب. يا الله، احدّث نفسي سعيدا: هنا باريس، وليست البلدة، والبائع ليس من جنين! اتناول كتاب "تفسير الاحلام" لابن سيرين وأنقد البائع عشرة فرنكات. اؤكد لنفسي وأنا أحمل الكتاب أنني في باريس ولست في جحيم البلاد، أي أنني لست في حلم. أسير في الحي النابض بالحياة والبشر وأنا أتصفّح كتاب ابن سيرين، ولا أجد حلما شبيها بحلم وجودي بباريس في منطقة باربيس!
أين فيينا من كل هذه الحياة والحيوية؟! فروق طفيفة، لكنها تصنع الفارق الكبير، سيما أنا في فيينا الباردة والكئيبة أشعر أنني في مكان عميق سقطت فيه سهوا أو قصدا ومن الصعب الخروج منه.
صباحا تذهب "بي" الى المدرسة. أنا أشرب قهوتي. أعشق المترو أيما عشق. لا أتعب منه، أو بالأحرى لا أملّ منه. أستمع الى صوت عجلاته. لا أعرف ما مصدر كل هذه المتعة عن عجلات المترو التي تبدو مزعجة لكنني أحبها من باب ضرب الحبيب زبيب. أخاف أن أسهو فأظل يقظا لئلا أخطئ في المحطة التي يجب أغادر النزول فيها. أنزل في السان ميشال. هناك تجد ما لذّ وطاب من المقاهي، حتى لو كانت سياحية. لا أزهق من الحي اللاتيني، إذ أقوم بجولات فيه وانا أتأمل الوجوه والحركة. أشعر أنني فوق الأرض وليس تحتها.
أتسكع لساعات، ثم أرتاد مقهى. أطلب فنجانا من الاسبرسو. أرتشف قهوتي على قلة مهلي وأنا أتابع السابلة خاصة النساء الجميلات الى أن أشبع من الحياة. لا حياة أخرى تشبه الحياة في باريس رغم تقادم الزمن على المدينة. وربما كانت باريس من أجمل المدن للتسكع في العالم. من لا يتسكع أو لا يحب التسكع في الوطن الاصلي، لا يعيش. هنا حيث تفتح شهية الإنسان على التسكّع لساعات، يعيش الواحد.
حب التسكّع يصنع الفارق الكبير!