النهار

رعب
معاناة الأطفال في غزّة بظلّ الطقس العاصف (تعبيرية- "أ ف ب").
A+   A-
رياض بيدس
 
وجد صعوبة كبيرة في متابعة نشرة أخبار التلفزيون. كان القتل، قتل الأطفال الأطفال يفوق الوصف والخيال، إضافة الى قتل النساء الختيارية والعجائز وتدمير البيوت كما لو كانت علب كبريت. تأمل الصور في التلفزيون وكانت مروّعة وصعبة جدا عليه. قالت له زوجته: لِمَ تتابع الأخبار إن كانت صعبة جدا؟!
قال: أنتِ تتابعينها أيضا بالجوّال.
 
قالت لمساعدته: أخبار الجوّال أقل استخداما للصور.
 
دارت له الفكرة. غيّر المحطة، لكنه شعر بحيرة. كيف يتابع الأخبار بدون مشاهدة الصور الكثيرة للشهداء؟! هل من وسيلة لوقف شلال الدم والقتل والتدمير والتهجير؟!
 
يصعب عليه أن يصدّق ما يجري. هل يخرج من البيت ويقوم بجولة قصيرة في الحي؟! لقد فعل ذلك صباحا. وحاول أن يستذكر أحلامه لكن رأسه كان خاويا. إنه لا يتذكر شيئا. كم يود لو أنه كان بعيدا عن البلاد. وماذا كان يجدي البعد والابتعاد؟! ستلاحقه الصور في كل مكان. تساءل بينه وبين نفسه: ألم يكن من الأفضل لو لم يكن عنده تلفزيون أو فضائيات أو قنوات أو أية وسيلة من وسائل التواصل الأجتماعي؟ ارتاح لفكرة أن ثمة حسنات كثيرة لوجود التلفزيون الذي يصله بما يجري في العالم، لأنه بدون هذه الوسائل كانت الإبادة ستكون كاملة لشعب أعزل دون أن يعرف أحد. الراديو؟! تردد الأمر في ذهنه كما لو كان ضربة حظ هائلة جدا. يستطيع أن يستمع الى أخباره دون أن يشاهد أي صور تزعزع عالمه وتجعله مريضا. فجأة رفع صوته متسائلا: أين الراديو؟!
 
أجابت زوجته: انجنّيت؟! الراديو خربان.
 
صرخ: أريد الراديو.
 
غابت امرأته قليلا ثم عادت وهي تحمل جهاز راديو ومسجّلا قديما جدا علاه الغبار.
 
بسرعة ذهب الى المطبخ وعاد وهو يحمل خرقة بالية ومسح الغبار عن الجهاز القديم. عمل على إيصال السلك بالكهرباء. أدار كبّاس الراديو، لكن لا حياة ولا صوت كان ينبعث، وظل الترانزستور صامتا صمت أهل القبور. ردّد بصوت ناشف: اللعنة... أنه مدمّر تماما.
قالت زوجته: مثلك تماما!
 
تساءل بتعب: ليش؟!
 
قالت: ألا تستطيع مشاهدة الأخبار في التلفزيون؟!
 
كانت تعرف حساسيته ازاء ما يحدث في غزة، لكنها أحبت أن تقويه، الا أنه لم يكن قويا، لا بل أنه كان ضعيفا من بداية الحرب في 7 أكتوبر. لم تكن حربا عادية، بل كانت حرب قتل وتدمير. لقد تزعزع كل عالمه. وكان عليه أن يجد مخرجا من الحال التي هو فيها. ضرب بكف يده اليسرى على الراديو المعطّل، ثم فرك كبّاس المحطات العربية العديدة، لكن ما من حياة. استدار وحدّق في فضائيات تلفزيونية غالبا ما لا يشاهدها ووصلت اليه رسالة مؤلمة ومنغصة جدا: فضائيات تبث المسلسلات التركية التافهة والاغاني والكليبات وبعض المسلسلات العربية مع كثير من شخصيات المحلّلين التي تثرثر وتبربر في محاولة منها لتحليل ما يجري.
 
وجد صعوبة في تحمل كل ذلك. فجأة خطر له خاطر غريب: إنه يستطيع أن "يسمع" كل الفضائايات التي تنقل الأخبار مع الصور، صور كل الشهداء والدمار والقتل والتشريد.
 
سألته زوجته: ما لك صافنا ذاهلا!
 
نظر الى زوجته نظرات طويلة فيها شيء من الراحة، ثم قال لها الآن أستطيع أن أسمع كل القنوات التي تبث الأخبار مع صور الشهداء (واردف) وبالرغم من صعوبة الأمر لكنه ممكن.
سألت: كيف؟! ستمرض!

قال: أنا مريض (وأضاف) كل ما علي فعله هو أن أن أدير شاشة التلفزيون الى الحائط وأسمع الاخبار فقط.

سألت: أيش؟!

قال: بسيطة. ثم اتجه نحو التلفزيون وأبقى الصوت عاليا وأدار شاشته نحو الحائط. وأخذت الاخبار التي تسمّ البدن تتساقط على أذنيه بصعوبة، لكن بدون مشاهد صور الشهداء والدمار.

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium