النهار

وضّاح أبو جامع يرمّم الذات عبر المرأة والهدم
نبيل مملوك
المصدر: "النهار"
وضّاح أبو جامع يرمّم الذات عبر المرأة والهدم
الغلاف.
A+   A-
في مجموعته الشعريّة الأولى "عالم محقون بالبوتوكس" الصادرة عن دار راية للنشر (طبعة أولى 2023 )، يبدأ الشاعر الفلسطيني وضّاح أبو جامع، الذي نشأ في غزّة، التمرّد على مفاهيم الحاضر والوجود من جهة، والقيم السامية من جهة ثانية، جاعلًا نصوصه أشبه بملاحظات مكثّفة تحرّض على تغيير المنطق الثابت والواعي للأشياء من دون طرح البديل الممكن.
 
المفاهيم والنقض الشّعري
يُخرِج أبو جامع نصّه من فكرة الانتماء، تاركاً السياق الشعريّ في حالة هدم للموجود، من دون طرح أيّ سياق بديل وممكن كما فعل بعض شعراء الحداثة حين وظّفوا النّص الشعري بحثاً عن شعريّة متكاملة. من نقض مفهوم "المقاومة" وأقاصيص اِنتصاراتها يبدأ الشاعر خطوات تمرّده ساخطًا على الواقع، من دون تكلّف لغويّ أو تصويريّ "من حثّنا على العودة إلى الوطن/ واختبأ بينما كان الرصاص يطلق على أقدامنا /لن يمشي بنا"(ص.11)، يأتي سياق "العودة إلى الوطن" ببعده التاريخي والسياسيّ - عاد إلى الواجهة مجدّدًا منذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة- ليبدّد فكرة الذنب، التي تطال "الجماعة" المنفيّة قسرًا عن أوطانها بفعل الاحتلال، وفقًا لفكرة النّص أو لأسباب أخرى، ما منح الشاعر فسحة للعب دور المثّقف العضويّ، الذي شكّل التغيير من خلال التعبير المغاير. هذا الهدم لم يجعل من السطور سوى مركّبات خبريّة يفصل بينها تصوير الحالة الإنسانيّة بلغة مجازيّة "لديّ صورة مصغّرة عن الحياة/ قبل أن تتسع منّي/ وواحدة كبيرة عن الحبّ قبل أن تصغر"(ص.21 ). يأتي التصوير الدرامي للحالة الشعوريّة ببعد إيقاعيّ مبنيًّا على هدم تتمّة الصورة المتعلقّة بالمقاومة والصمود.
 
أراد أبو جامع أن يقول للمتلقّي إنّه خارج المكان الذي رسمه الوعي الجماعي، حيث تنضح البطولات والصمود. لم يعتمد على اللغة، بل على أجزاء من سماتها كالتكثيف والانزياحات التي أوصلته إلى فجوة بين تصوير اللحظة وطرح الرؤية الخاصة به، لتبقى عمليّة "النقض" قائمة على رفض السائد، من دون التقدّم نحو موقف بديل غير مألوف.
 
المرأة وترميم الذات
يُخرج الشاعر المرأة من نفق السرد الشعريّ المتعلّق بالأنا؛ ففي القسم الأول من المجموعة، وظّف أبو جامع المرأة، وتحديدًا بصيغة "الأمومة، "ليتمّم التفاصيل المتعلّقة برفضه القائم للموجود، إلى جانب التماهي مع الواقع الدراميّ، الذي يطارده "حتّى الساعة التي رسمتها أمي/ بأسنانها على يدي عندما كنت طفلًا/ توقّفت" (ص.26). أمّا في القسم اللاحق، الذي حمل عنوان "صورة أخيرة لفأس على الأسرّة"، فبدأ وضّاح أبو جامع يظهر رغبته في ترميم الذات من خلال العاطفة والجمال الأنثويّ من جهة "منذ قصصتِ شعركِ/ لم أكتب قصيدة طويلة"(ص 59)، ومحاولة الرّبط بين المرأة الغائبة والمتعلّقات الاجتماعيّة التي تعيد الشاعر من الاغتراب الجسدي والذاتي إلى الأصل والهويّة والتطرق للمسكوت عنه" من فستانك القصير/ يهرول الغزّيّ المسلح في القرية مردّدًا /الدمّ للركب" (ص. 58). يحاول أبو جامع رسم امرأته من خلال الانزياحات، يُخبرها بتكثيف لغويّ كيف تصنع من خلال الجانبين الشهواني والروحاني حياته القائمة على الفقد والوحدة " معجمي ضيّق/ وكلماتي في الحبّ قليلة/ حتّى الله لم يكتب عن الإخلاص سوى أربع آيات" (ص. 63).
 
تُحسب للشاعر قدرته العالية على ربط الحاضر بالأمس، الحضور والغياب، النّص الديني والعجز الآدمي، ليبني خطابه الرومنطيقيّ الأقرب إلى المجاز، ويوجّهه نحو المرأة علّه يجد في غيابها نفسه. لكنّ التماهي بتوظيف الانزياحات الشعريّة للربط بين الاعتقادات الدينيّة العامة والفقد جعلت أبو جامع أقرب إلى المناجاة متناسيًا ذاته، منفصلًا عن تلك الذات المتمرّدة على الواقع والفكرة، ممّا يضعنا أمام تجربة تتحّكم بها الأمزجة، وتجعل النّص الشعريّ المتعلّق بالمرأة كالعقل الباطني يغرف من الموجود، من دون تفكيك أو ترتيب.
 
حاول الشاعر جعل المرأة وحاجته لها تخرج كمفهوم من تكوين تجاربه معها، إلّا أنّ كلّ سطر شعريّ كان يظهر الشاعر من خلاله متعلّقًا بالتفاصيل، يعجز عن ترميم ذاته، ويتجلّى ذلك بصيغة مباشرة من خلال جعل الرغبة والجسد يكمّلان المشهد المرسوم فنيًّا.
 
نجحتْ مجموعة وضّاح أبو جامع في إظهار ما لم يستطع التوصّل إليه الشاعر وذاته من تفاهمات؛ وهو ما يُعيدنا إلى ما نسب إلى المسرحيّ الفرنسي صموئيل بيكيت "أن تكتب يعني أن تفشل"، وقد يكون الفشل " الإيجابيّ" حكْماً من أحكام الشعر الذي يحرّض على المحاولة دوماً.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium