اللّحظات في سديم الإطار، ونزف الدوائر نُضرَ حبٍّ، ورحيل نظر المرأة إلى ارتعاشة روحٍ، تهفو إلى لذّة الصّمت الأبدي بعد انتهاء سباق النظر مع السّهم.
بنظرتها الباسقة إلى المدى الرحيب الّذي يتخطّى فضاء اللّوحة، تحاول المرأة اللّامبالية لملمة إحساسَ بعضٍ من خصلات شعرها، وقد استراحت على كتفها، تُقبّل بعضاً من جسمها الغضّ، الغارق في افتراضيّة اللوحة السّفلى. فيحسد الناظر إلى اللوحة تلك الخصلات، على ما حباها القدر من مزيّة التنعّم بنعومة عطرها الأنثويّ الّذي فاح من فرشاة نشرته في أديم اللوحة.
أن تقرأ في العينين شهد الاشتياق بعد أن يرسمهما فنّان، فهذا واقع، لكن أن ترى نظرة خارجة من المآقي في لوحة فهذا محال. وهذا ما فعلته فيفيان الصّايغ، فقد رسمت إمرأة كغزالة ترتقب سهم صيّادها بنظرة مبحرة في الجَزَعِ، ومهابة الصّمت القدسيّ، ورنا السكون؛ فترجم خيالها المحالَ واقعاً، بواسطة شعيرات الفرشاة.
عينان، أخذهما الفؤاد بأضلاعه. وجاءها الحبيب برهة ورحل ولم يعد، وزاغ النظر في انتظاره، وسهم الموت يطرق الباب. تلك العينان المتكحِلتان من رضاب الشوق، لم تهدِهما أنوار الحبّ في سرر العشق إلى فجرٍ هلّ في فضاء غير منظور. وقد ترطّبت الروح من سكنات وألقٍ صامتٍ، وأصبح ماء العينين يغشى الفؤاد. وامتدّ البصر إلى غير ما رأت العينان، لأنّهما لم تريا إلّا السّراب.
رسمت الصايغ من طهر ورقّة وأنس القدحات تذكرة إلى الفضاء، تسري مع الناظر في ألق فتون؛ لأنّها جسّدت لقاء الجفون مع العينين، راسمة الثواني من دون مواعيد. ولم تتعب الجفون من الرمش، لتنام في سرير لحافه الحاجبان.
ماء الإلفة غادر ذرى الوجد، ولم تصبغ الريشة وجه المرأة بلمعة الحياء. لكنّها استنزلت الشحوب في سلالٍ من حزنٍ، وكأنّ المرض سرق الخجل من رونق الإطلالة.
شفتان قبّلتا حياء الضوء، بعد أن عزفتا نياط القلوب تراتيلَ، كرشقِ الهوى في مدى العمر المنتظر طعم الشّهد. ودوائر تتوضأ من بتول نور شمسٍ غارقة في عين الهدف، وهي لا تدري أنّ تموضعها في خلفيّة اللّوحة يماثل تآكل الروح، بعد لفظ القوس سهام الغدر.
كتبت فيفيان الصايغ بالريشة اشتياق الفضاء، لأنّها قد تأكّد لها أنّ ليس كلّ الطيور تهاجر وتعود. فرسمت طيوراً وشدواً تؤنس فضاء اللّوحة لحن الجمال؛ وألسنة الضّوء قد استعذبت رقّة اللّون. وتشيب الذكريات، تاركة حزناً مقيماً في القماش، بالرغم من انسلاخ ديجور اللّيل من رَتَقِ السّماء.
قلق جنون ريشة فيفيان، عابق في اخضرار أوراق قرط أذنٍ، تسترزق عنها الدعسوقة خميرة الحياة؛ فعشق إمرأة بالسّمع لا ينوب عن شرود العينين. ولأنّه لم يئزّ في صنوان الأذن نقاء الإخلاص، فلم يطلّ الصباح الحليم، واحتجب في مخيلة فيفيان الصايغ، وراء دوائر نازفة من جرح أسفلها.