رياض بيدس
كان يجر حاله جرّا. لم يكن كبيرا كما لم يكن صغيرا ولم يبلغ أرذل العمر، لكنه كالكثيرين غيره وصل إلى أرذل النفسيات. على كل حال مهما كان رقم عمره الذي وصل اليه فلن يعترف به حتى لنفسه لأنه يشعر في أعماقه أنه أصغر بكثير ممن "زوّر" تاريخ ولادته في الهوية. لكن الدنيا ضاقت عليه في الحرب الأخيرة فقلّت حركته، وكان أينما توجه أو سار يحمل معه تعبه.
صار يحمل معه جوّالا ليطّلع بين حين وآخر على مجريات الأمور. للأسف لا يوجد خبر واحد يرفع المعنويات أو يسرّ القلب، بل بالعكس كل الأخبار تهبّط المعنويات وتصل به أحيانا الى الحضيض. من كان يتوقع هذه الحرب التي تأتي على المدنيين الغلابى والعمارات والأخضر واليابس. الجميع أعتقدوا أنها ستكون لأسبوع أو أسبوعين بالكثير لكن استشراس اليهود جعل هذه الحرب طويلة جدا ويعلم الله وحده الى متى ستستمر. يغلق الجوّال ويتابع السير على مهل. يحدّث نفسه: في الماضي البعيد وغير البعيد لم تكن الحرب مدمرة ومرعبة كهذه الحرب الضروس. تعود الى ذاكرته جثث الأطفال الفلسطينيين والمدنيين. شيء مرعب. في فلسطين المحتلة يكبر الفلسطيني ويختير قبل أوانه. في بلاد أخرى يكبر على مهل. هل على الفلسطيني أن يعيش كل هذه المآسي؟ من يحمل بعض العبء عن الفلسطينيين؟ لا أحد. ثمة تظاهرات في العالم دعما للشعب الفلسطيني لكن لا أحد يضغط على اليهود لوقف هذه الحرب. هناك حكي لا أكثر ولا أقل. شيء مخيف جدا. لا أحد يعمل على ايقاف هذه الحرب المرعبة. أين العالم؟
يتايع السير في طبيعة الجليل الجميلة. ينظر الى الأشجار والأعشاب وبعض النباتات الخضراء، يشعر للحظات في قلبه ببعض الفرح العابر. يتساءل: أمن حقي أن أفرح فرحا عابرا في هذه الظروف المأسوية؟! يمر على مقربة منه شخصان لا يعرفهما يلقيان عليه تحية. تدريجيا تقوده قدماه الى مناطق بعيدة. أنه مغرم بالمشي. المكان الذي لا يستطيع المشي أو التسكع فيه لا يذهب اليه الا اذا كان مضطرا. رغم جمال المكان الذي يسير فيه الا انه يشعر بتعب. قبل الحرب كان يمشي مع زوجته ويشعر ببعض الفرح. أما الآن فمن الصعوبة بمكان أن يفرح. مشاهد القتلى من المدنيين الفلسطينيين التي تبثها شاشات التلفزيون تجعل المشاهد يائسا ومريضا ليهرب الى مشاهدة حلقة من حلقات مسلسل "الخربة". الحياة يجب ألا تكون بمثل هذه البربرية والهمجية. يشعر بتوعك. يجب أن يتداوى من كل ما يجري. لكن كيف؟ يفكر في العودة الى البيت لكن الطريق طويلة، ربما تمتد لساعة.
يرى قطيعا من البقىر يرعى مع الأغنام. على الأقل توجد بعض مظاهر حياة قليلة هنا، حتى لو كانت أبقارا. يمر ختيار على حمار فيسأله لكي يكسر جو الصمت الكابوسيّ: "هل ينهق هذا الحمار؟". يجيب الختيار ضاحكا: "الحمير لم تعد تنهق. البشر صاروا ينهقون بدلا من الحمير نهيقا كله نشاز".
أعجبه جواب الختيار. تابع حركة الحمار البطيئة. فجأة سمع خبطة قوية جدا. لا بد أن قذيفة فلسطينية سقطت على مقربة، ثم دوّى صوت انفجار يصم الآذان. تساءل: من يجرؤ على المشي في هذه الايام؟!
بعد انقضاء أسابيع على الحرب تعود الحياة تقريبا مع كل الجراح الغائرة. صحيح أن منطقة الجليل بعيدة لكن ظلال الحرب تنتشر في كل مكان.
استدار ليعود الى البيت على مهل. حاول أن يفتح جواله ليرى أين وقعت القذيفة، لكنه نظر الى موقع عربي بسرعة ولم يجد فيه خبرا عما جرى قبل قليل. أعاد جوّاله الكريه الى جيبه يائسا. من المؤسف أنه لا يحب الجوال ولا يجد في الحياة طعما كالذي كان يجده أحيانا في الخارح وهنا. غذ السير وأطلق مسبة من قاع الدست على هذه الحرب!