النهار

التّحوّلات العربيّة في مراياها الشّعريّة
المصدر: "النهار"
التّحوّلات العربيّة في مراياها الشّعريّة
تعبيرية.
A+   A-

سارة ضاهر

الشعر العربيّ حاضن للتراث وشاهد على كل تطوّر أو تحوّل طرأ على المجتمع العربيّ في مختلف المستويات؛ فقد أسهم في تشكيل المعرفة وفي التعبير عن التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة، فأدى دوراً كبيراً في حفظ المعرفة والتاريخ، ونقل القيم والأخلاق، والتعبير عن التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة، وتشكيل الوعي والتأثير سلوكيًّا وعاطفيًّا وفكريًّا، والتحفيز للتغيير. وبرزت أسماء كبيرة في هذا المجال تعود، بحكم التطوّر، إلى العصور القديمة، حيث نجد في شعر امرئ القيس وعنترة وسواهما من شعراء العصر الجاهليّ ما يظهر الحياة من كافة جوانبها آنذاك، لنتبيّن، في العصور اللاحقة، التغيّر الذي طرأ عليها تدريجياً حتى عصرنا الراهن، فانعكس في الشعر سواء من ناحية المضمون أو من ناحية بنية القصيدة.

أولًا-التحوّلات الاجتماعيّة

تعنى التحوّلات الاجتماعيّة العربيّة بالتغيّرات والتطوّرات التي تحدث في المجتمعات العربيّة على مستوى القيم والمعتقدات والسلوكيّات والعادات والتقاليد، إذ يتأثر المجتمع العربيّ بعوامل مختلفة مثل التقدم التكنولوجي والعولمة والتحوّلات الاقتصاديّة والتغيّرات السياسيّة والتطوّرات الثقافيّة.

وقد ظهرت هذه التحوّلات في الشعر؛ فإذا عدنا إلى الشعر العربيّ القديم نجد أن الموضوعات كانت تتراوح بين المدح والغزل والفخر والفروسيّة إلخ... وكان الشعر يُظهر قيم العروبة مثل الشجاعة والشرف والكرم والوفاء، ويعبر عن المعتقدات الدينيّة التي كانت سائدة آنذاك. كما كان الشاعر ملتزمًا بالأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعيّة، وكان يصوّرها في شعره، ويصوّر حياة التنقل والترحال بحثًا عن الماء والكلأ في حياة البدو من جهة، وحياة المدن والتجارة والزراعة وغير ذلك من الأمور من جهة أخرى. ولم يغفل الشعر العربيّ مسألة الزواج والعائلة والضيافة. فصوّرت العائلة على أنها النواة الأساسيّة للمجتمع ومصدر الحياة والراحة النفسيّة.

ومع تطوّر العصور وانفتاح المجتمع العربيّ على غيره من المجتمعات أخذ الشعراء يتناولون قضايا عصرهم من مختلف الجوانب الاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة والثقافيّة، فبرزت موضوعات جديدة تعزز الحريّة الفرديّة والاستقلاليّة والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان. وقد سهل التطوّر التكنولوجيّ ووسائل التواصل الاجتماعيّ التي قربت المسافات، الاحتكاك المباشر بالغرب سواء من خلال الهجرة أو السفر للتحصيل العلميّ أو غيرهما من الأمور، ما أثر في العادات والأعراف المحليّة. ولم تكن صورة العائلة في الشعر العربيّ بمعزل عن التحوّل إذ استجابت للتطوّرات الاجتماعيّة والثقافيّة، فعبّر الشعر العربيّ عن مشاعر الحب والفراق والحنين، وعن الصراعات الأسريّة والاندماج الاجتماعيّ والتحرر الشخصيّ. وتجدر الإشارة إلى أنه في بعض الحالات، تم تصوير العائلة بصورة سلبيّة أو ملتوية لتسليط الضوء على الظلم والخلل الاجتماعيّ. وقد أصبحت التنوّعات في تصوير العائلة أكثر وضوحًا في الشعر الحديث، فظهرت قصائد تتناول التوترات العائليّة والصراع بين الأجيال، والتحوّلات في التقاليد والقيم، وتغيّر دور المرأة في المجتمع.

وفي إطار الحديث عن المرأة نذكر أن الشعراء بدأوا يُخرجون المرأة من القالب النمطيّ المعتاد لها في القصائد، ويصوّرونها وفق وجهات نظر متنوّعة. وأسوة بالتطوّر، أخذ الشعر العربيّ يناقش قضايا المرأة بجرأة ووضوح ويطالب بحقوقها، فبرزت كيانًا قويًّا ومستقلًّا، وازدادت مشاركتها كعنصر فاعل في الحياة الشعريّة بشكل كبير. فظهرت شاعرات متميّزات تناولنَ قضايا المرأة وتجاربها بطرق جديدة ومبتكرة، كتلك المرتبطة بالمساواة بين الجنسين، وحقوق المرأة، ومواجهة التحديات الاجتماعيّة والثقافيّة.

ولا نغفل الدور البارز للدين الإسلاميّ في الحياة الاجتماعيّة، فقد حمل الإسلام إلى العالم العربيّ تعاليم القرآن الكريم ومسائل الحجّ والصلاة والصيام والزكاة وآداب المجتمع، فجاء شعر يعكس القيم الإسلاميّة. لكن، مع مرور الزمن وتأثر الثقافة العربيّة بالكثير من المتغيّرات، بدأت المفاهيم الدينيّة في الشعر العربيّ تتغيّر بدورها، فظهر الشعر الصوفيّ، والشعر الدينيّ التجديدي، والشعر الدينيّ الاجتماعيّ، والشعر الدينيّ الإنسانيّ... وهي تحوّلات قد تختلف وفقًا للفترة الزمنيّة والتيّار الأدبيّ وفكر الشاعر ومعتقداته.

ثانيًا- التحوّلات السياسيّة

تغيّرت المفاهيم السياسيّة في الشعر العربيّ على مر العصور وذلك بتأثير من الأحداث السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي شهدتها المنطقة. فكان الشعر التقليديّ يعبر عن الولاء للحكام، ويمجّد القادة السياسيّين. وكثيرًا ما كانت القصائد تؤدي دورًا في تحفيز الشجاعة وتعزيز الروح القوميّة.

وتدريجيًّا، أصبح الشعر العربيّ مرآة المشاعر والرأي العام تجاه الأنظمة السياسيّة والثورات والتغيّرات الاجتماعيّة، فتناول، في بعض الأحيان، قضايا الفقر والثراء والتجارة والزراعة والعمل، وغيرها من الأمور التي تتأثر تلقائيًّا بالأوضاع السياسيّة في بلد ما. وفي فترة النهضة العربيّة، شهد الشعر حركة تجديديّة كبيرة، حيث انتقد بعض الشعراء الحكومات الاستعماريّة ودعموا قضيّة الحريّة والاستقلال. وأصبح الشعر في العصر الحديث وسيلة للتعبير عن القضايا السياسيّة المعاصرة والمظالم الاجتماعيّة، فاستخدم الشعراء قوّة الكلمة وأثرها في النفوس لنقد النظام السياسيّ، ولتجسيد المظاهرات والحركات الشعبيّة، وللتعبير عن رغبة الشعب في التغيير والإصلاح. كما يمكن أن نجد المنحى الاقتصاديّ أكثر بروزًا في هذه الحقبة، وذلك نتيجة الاهتمام المتنامي بالقضايا الاقتصاديّة في الثقافة العربيّة المعاصرة.

بالتالي، لقد تعددت الموضوعات التي عالجتها القصيدة العربيّة وتنوّعت تبعًا للظروف والتاريخ والمعطيات الاجتماعيّة والسياسيّة، وباتت قصائد اليوم، فضلًا عن المواضيع العامة المتعارف عليها التي تعالجها، تعكس تعدد الهويّات الثقافيّة وتعبيراتها المختلفة، كما يتناول بعضها القضايا المهمة مثل التعايش وحقوق الأقليّات والهجرة بشكل متزايد.

ثالثًا-شكل القصيدة

كان الشعر العربيّ مرتبطًا بالتقاليد ومكبلًا بالقيود، وملتزمًا بنمطيّة معيّنة في البناء. وكان يركز على الشفاهة والإلقاء والسماع، ليصبح أكثر انتشارًا مع التدوين، ومن ثم الطباعة والنشر. وكما أشرنا لقد تطوّرت المواضيع التي بات يعالجها، فأخذ يعبر عن المشاعر والأفكار ووصف الجمال الطبيعيّ وتسليط الضوء على المواضيع الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة. كما ظهرت أنواع مختلفة من الشعر كالقصيدة الشعبيّة والقصيدة الغنائيّة والقصيدة الدينيّة إلخ. وكان من الطبيعيّ، نظرًا للتحوّل في الموضوعات، والبحث عن التجديد، والتأثر بالغرب، أن يبحث الشاعر عن الحريّة في الشكل ليعبر بشكل أفضل عن أحاسيسه وانفعالاته، فظهرت حركات شعريّة جديدة في العصر الحديث مثل الشعر الحديث والشعر الحر وقصيدة النثر؛ فتفلت الشعر عند العديد من الشعراء من قيود الماضي، وأصبح يعبر مضمونًا وشكلًا عن الرغبة بالتغيير والتجديد.

باختصار، تطوّرت التقاليد في الشعر العربيّ على مر الزمن مع تنوّع الأساليب والمواضيع والمدارس الشعريّة، ما أسهم في إثرائه وجعله جزءًا هاما من الثقافة والتراث العربيّ. ونشير إلى أن الحالات التي يمر بها الإنسان تتكرر من شخص إلى آخر وإن اختلفت الظروف والعصور، لكن الكلمة تتعدى الزمان وتتخطى المكان، لتشهد على التاريخ في كل زمان ومكان.

 

الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium