النهار

غياب بيضة القبّان في كتاب "لعبة وطن" لبشير ميشال الدويهي
يوسف طراد
المصدر: "النهار"
غياب بيضة القبّان في كتاب "لعبة وطن" لبشير ميشال الدويهي
غلاف الكتاب.
A+   A-
منذ ثمانينيّات القرن المنصرم، كانت لعبة كرة السلّة الّلبنانيّة، ببهائها وارتقائها إلى القمّة، بديلاً عن الإحباط الوطنيّ والخرق السياديّ المفضوح، في ظل الاحتلال السّوري، والقبضة الأمنيّة الصارمة. وقد أرّخ بشير الدويهي هذه الحقبة الذهبيّة من تاريخ اللعبة أصدق تأريخ، في كتاب "لعبة وطن" الذي صدر حديثاً ضمن منشورات "دار سائر المشرق".
 
يومها كانت هذه اللعبة رياضة ترتدي رداءً بمقاسٍ صغير، كطفل يحبو؛ قبل أن يعظم الحلم في فكر "البريزيدان" أنطوان الشويري؛ وقد تنامت بهدوء، ورصانة، وآمال كبيرة تحقّقت في عمر واحد. يومها كان الرجل في عزِّ شبابه وكهولته، وفي عزِّ نضوجه الفكريّ وعطائه الإعلاميّ، وكرمه الحاتميّ...
 
قد يتصوّر البعض بأنّ التاريخ قد وقف في منتصف التحوّلات الكبرى، يعزف على قيثارة الحزن والألم، في جلجلة انهزامات وطنيّة، وانواء عواصف إقليميّة ضربت بعنفٍ مجنون ربوع الوطن الّلبنانيّ، المبتلي بطقم سياسيّ بالٍ ورثٍ، ونظام بُنيَ على شبكة من الزبائنيّة السياسيّة المقيتة، تحت عنوان فضفاض، اسمه "الميثاق الوطني" الّذي طُبّق بالقطعة بحسب حاجة المحتلّ. فالكثير من الكتّاب قد أرّخوا هذه الفترة من خلال روايات وأبحاث وغيرها... عارضين الألم والمآسي والحبّ في الحرب؛ لكن قلّة منهم كبشير الدويهي، أضاءت على ارتقاء لعبة رياضيّة خلال هذه الحقبة إلى القمّة بعد أن كانت لعبة عادية. وقد كان صعود لعبة كرة السلّة الصاروخيّ "تنفيسة" لمجتمع مكبوت سياسيّاً، ومضطهد أمنيّاً من قبضة حديديّة فرضتها السّلطة في ذاك الوقت، بناءً على أوامر المحتلّ.
 
عرض الدويهي تاريخ كرة السلّة الّلبنانيّة منذ عام 1936 إلى عام 2004، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إنّ هذه الرياضة هي موضوع أثير، اكتنفه الغموض على كثيرٍ من التعقيدات، والرؤى التنظيميّة، والتدخّلات السّياسيّة والطائفيّة، لكنّها امتازت بسحر المنافسة، وغموض موقف الاحتلال منها. فقد أرّخ المؤلّف سيرة هذه الّلعبة باقتضاب من العام 1936 حتى أواخر ثمانينيّات القرن المنصرم، وبتفصيل غير ممل للحقبة الزمنيّة المتبقيّة المعروضة في الكتاب حتّى أوائل القرن الحالي، الّتي شكّلت الفترة الذهبيّة لهذه الرياضة.
 
كم هو عظيم وجه الشبه، بين من يقاوم في ملاعب الرياضة ومن يقاوم بأصوات المدافع. فقد ظهرت براعة الّلبنانيّين بعلوم المدفعيّة منذ موقعة المالكيّة. فمن شروط هذه العلوم الأخذ بالاعتبار سرعة الرياح ووجهتها. وقد طبّق لاعبو كرة السلّة هذه العلوم المترسّخة في جيناتهم في الملاعب: "وكانوا يخوضون المباريات في تلك الفترة بمواجهة الفريق المنافس والطقس في آن معاً، بحيث أنه بسبب عدم وجود ملاعب مقفلة كان اللاعب يضطّر مثلاً لضبط تسديداته على السلّة حسب وجهة الهواء" (صفحة 29). وهنا الكلام عن المباريات التي حصلت في ستينيّات القرن الماضي.
 
حاول الاحتلال السّيطرة على كلّ ما يمنح الحريّة والفرح، فحاول كبت الحريّات الاعلاميّة، وكمَّ الأفواه بعدّة طرق، منها الاغتيالات الّتي طالت الإعلاميين والمفكّرين كالصحافي سليم الّلوزي، ومحاولة إقفال محطات التلفاز، وقد نجح باقفال قناة MTV لكنّه لم يستطع ابتلاع الفرح المتدفّق عشقاً للوطنيّة، الذي كانت لعبة كرة السلّة ملاذه. وكان كلّ مشجّع لأيّ فريق خارج سيطرة الجيش السوريّ يعتبر ملاحقاً. وعلى الرغم من منع التظاهر من قبل النظام الأمنيّ التابع لسلطة الأسد في حينه، بقي تدفّق المشجّعين إلى الملاعب من دون ضفاف، وقد جعل العرس "السلّاوي" هذا النظام عاجزاً عن وقف هذه الظاهرة.
 
إنّ مُشاهِد المباريات على شاشات التلفاز، كان غافلاً عن بصمات الحقد التي تركتها "الوصاية السّوريّة" كما كانوا يطلقون على الاحتلال تخفيفاً لوطئته. لكن قارئ كتاب "لعبة وطن" يتأكّد له أنّه كان للاحتلال "قرصاً في كلّ عرسٍ" على سبيل المثال لا الحصر ما ورد في الصّفحة 58 عن لسان رئيس نادي الرياضي هشام الجارودي: "كان النادي الرياضيّ في المنارة محتلاً من قبل الجيش السوري وكانت الدبّابات السوريّة متمركزة في أرض كرة السلّة... إلى أن استلمنا النادي شبه مدمّر". وكما ورد أيضاً في الصفحة 197: "وقد أشيع آنذاك أن المخابرات السورية الموجودة في لبنان ضغطت على الحكّام لفوز منتخب سوريا"، وهنا يحضر أمامنا المثل الشعبيّ القائل "ما في دخّان بلا نار".
 
يلاحظ القارئ شموليّة السّرد، فلم يغفل بشير الدويهي عن تسجيل أيّ معلومة تتعلّق بلعبة كرة السلّة اللبنانيّة، من أسماء الفرق، والمباريات المحليّة والدوليّة، والبطولات العربيّة والآسيويّة، وأسماء اللاعبين اللبنانيّين والأجانب، وبورصة انتقالهم وظروف الانتقال، وأسماء أعضاء الهيئة الاداريّة لكل فريق، والانتخابات المتعلّقة بانتخاب رئيس وأعضاء اتّحاد كرة السلّة، وقد ذكر تاريخ فصل اتحاد كرة الطائرة عن هذا الاتّحاد. كما كانت هناك صفحات عديدة في الكتاب، تصف مزايا أنطوان الشويري رئيس نادي الحكمة، وجهوده الجبّارة في رفع شأن هذه الرياضة، ودوره الرائد في صناعة النجوم، ودعم كلّ الفرق وليس فريق الحكمة فقط: "وصل لفترة من الفترات أن يحمل على كتفَيه ستين بالمئة من فرق الدرجة الأولى وحين كان يُسأل لماذا تساعد تلك الأندية فكان جوابه: (شو بلعب وحدي؟)" (صفحة 340).
 
في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الوطن الحديث، وفي غياب وتغيِب الفكر الوطني، ومنهج العمل الّذي لا يستسيغه بعض من أبناء الوطن الّذين أسلموا ذواتهم لمنطق الخوف من كينونة وطن، قادر على الانتصار، بجهد وسواعد أبنائه الشّجعان الأحرار؛ قد انسحب الشرخ الطائفي الّذي كان يديره المحتلّ على المجال الرياضي، وخاصّة على لعبة كرة السلّة. وكانت قاعدة "السّتة والسّتة مكرر" كالعادة متحكّمة في هذه الّلعبة. فكان لكلّ طائفة فريق باستثناء طائفة الموحدين الدروز؛ على سبيل المثال لا الحصر فريق الحكمة للطائفة المسيحيّة والقوات اللبنانيّة، وفريق الرياضيّ للطائفة السنيّة وتيار المستقبل. ولم تكن طائفة الموحدين الدروز بيضة القبّان في هذه الّلعبة كما هي في السّياسة: "مثلما شكّل النادي الرياضي تجمّعاً لعائلات بيروت السنيّة العريقة، تأسّس في الأشرفيّة في العام 1947 نادي أبناء نبتون برئاسة كميل بطرس، وأصبح فريق الـNBN سريعاً رمزاً لأهالي منطقة الأشرفيّة ومسيحيي مدينة بيروت" (صفحة 18)؛ "كان يكفي أن تكون من منطقةٍ معيّنة ليُعرف في الحال أي نادٍ تشجّع." (صفحة 29).
 
وتبقى الأرواح الأبيّة المتحررة من سجن الجسد، توّاقة إلى الحريّة، فالوطنيّة خبزها والسّيادة مبتغاها، والوطن المحرّر هدفها، فقد ورد في الصفحة 162 من الكتاب، عن لسان الدكتور سمير جعجع، خلال مقابلة له مع الإعلامي وليد عبّود عبر شاشة MTV "كنت معزولاً عن كلّ ما يحصل في الخارج، وكنت في زنزانتي لا أسمع سوى أصوات التعذيب للمعتقلين في بعض الأحيان، سمعت في تلك الليلة صيحات وزمامير كالتي كانت تدعم القوّات، تفاجأت وركّزت أكثر فسمعتها تكراراً ومراراً... في اليوم التالي علمت من المحامين أن الحكمة فاز في بطولة آسيا... أدركت حينها أن تلك الأصوات التي سمعتها أمس كان صوت جمهور الحكمة وهي صادرة من تلفاز السجّانين".
 
لنعود إلى الحياة، وهيّا بنا نلعب. فلا خيار لنا سوى أن نحيا ونحيِي آمالنا في فسحة العيش المشترك؛ فمن يقرأ "لعبة وطن" لبشير الدويهي، يستعد ذكريات، ويستعدّ لفشل ذهب الأيّام الماضية، المدوّنة بين دفتي كتاب، ويحلّق خارج سرب الغمام مع فصول حكاية كرة السلّة.

اقرأ في النهار Premium